لا يمكن أن يظهر مثال أفضل يكشف عن اهتراء الدولة اللبنانية. السجال الدائر بين وزارة الاشغال العامة ووزارة المالية يختصر قصّة عنوانها «إعدام الموازنات العامة». فلو كانت هناك موازنة لما دار أي سجال بين الوزارتين حول قانونية مصادر الإنفاق بل كان يفترض أن يكون جدوى الإنفاق وأهميته وحجم الهدر والفساد فيه محور أي سجال.
أما السجال الجاري اليوم، فهو احدى نتائج الفوضى والإهمال الذي أُغرقت فيه إدارات الدولة، وهو السجال الذي يغطي عورات الدولة ومستوى الفساد المنتشر فيها والهدر الذي يصيب المال العام. ففي عام 2013 أنفقت وزارة الأشغال العامة 46 مليار ليرة ولزّمت مشاريع بقيمة 271.9 مليارات ليرة لكنها تؤكد أن وزارة المال لم تصرف لها الأموال اللازمة لتلزيم صيانة المجاري.
جداول وزارة المال واضحة. فهي تشير إلى ان النفقات المعقودة لوزارة الأشغال العامة تزيد على 50 مليار ليرة بين نيسان 2013 وأيلول من السنة نفسها. ثلاثة مشاريع من بين 46 مشروعاً استنفدت 92% من قيمة المبلغ الإجمالي المعقودة نفقته. هذه المشاريع تعود إلى تأهيل وإنشاء طرق في بيصور وزحلة وكسروان. أما تلزيم مشاريع صيانة وتأهيل تصريف المياه فقيمتها تبلغ 220 مليون ليرة، فيما تبلغ قيمة مشاريع رفع الثلوج 500 مليون ليرة. هناك قسم كبير من هذه الاعتمادات مدوّرة ومعقودة النفقة، أي أن تلزيمها بلغ مرحلته النهائية وقد حجزت له الأموال وترتّب للملتزمين حقوقاً على الدولة يمكنهم أن يطالبون بها.
رغم كل هذا الأمر، إلا أن السجال اندلع بين وزارتي الاشغال العامة والمال. أصل السجال، وفق المعطيات والوقائع المتداولة هو خلاف حول السند القانوني الذي يتيح لوزارة الأشغال العامة وغيرها صرف الأموال على المشاريع. فالوزارة المذكورة، تحديداً، تنفذ أعمالاً تندرج تحت عنوان الإنفاق الاستثماري من أجل إنشاء طرق أو تأهيلها أو صيانتها، أو صيانة المجارير، أو تأهيل مبان وإدارات حكومية... كل هذه المشاريع تحتاج إلى مبالغ يجب أن ترصد مسبقاً من خلال قوانين الموازنات العامة، أو على الأقل أن تدرج في الموازنة على أنها أولويات وتقدّر كلفتها على هذا الأساس. وبالتالي، فإن هذا المسار هو القاعدة الأساسية لحجز الأموال وصرفها. إلا أنه منذ آخر عام 2005 إلى اليوم لم يعمل وفق القاعدة، بل تحوّل الاستثناء إلى قاعدة يعمل على أساسها طيلة الوقت.
هذا الاستثناء كانت له أشكال عدّة، فهو مرّة يستند إلى مشاريع الموازنات كسند قانوني للإنفاق، ومرّة يستند إلى قرارات في مجلس الوزراء، ومرّة يستند إلى سلفات الخزينة، ومرة يستند إلى قوانين لتشريع هذه السلفات... وكل هذه الأشكال تحمل بذور نتائج كارثية على الدولة لأنها بدأت تحلّ بدلاً من القواعد الأصلية.
وتندرج قصّة السجال بين وزارتي المال والاشغال العامة تحت هذا الوضع. فوزير الأشغال العامة غازي العريضي يرى أن «وزارة المال، وتحت عنوان تصريف الأعمال، لم تخصص الحدّ الأدنى من المال اللازم لوزارة الاشغال». ويضيف العريضي في مؤتمره الصحافي المنعقد قبل يومين: «تحت هذا العنوان تم تجميد كل الأعمال ولم ننفذ أي شيء. كنا نأمل معالجة الموضوع، إنما نحن الآن على أبواب الشتاء، وقلت منذ يومين إن الطرق ستغرق بالمياه ولا يحاولن أحد تحميل وزارة الأشغال المسؤولية. وحتى الآن لم نعط أمر مباشرة العمل للشركات لعدم توافر المال وذلك بسبب فلسفة تصريف الأعمال في وزارة المال الحالية».
بين أرقام وزارة المال وأقوال العريضي ثمة الكثير مما بقي خافياً عن اللبنانيين ودافعي الضرائب. المشهد في الوزارتين يكفي ليسلّط الضوء على مشكلة كامنة. صحيح أن وزارة المال ترفض حجز كل الاعتمادات التي تطلبها وزارة الأشغال على أساس أن بعضها يتضمن «توسّعاً في الإنفاق مخالفاً لمفهوم تصريف الأعمال» لكن المشكلة أن كل إنفاق الدولة هو على أساس سلفة الخزينة التي حدّدت مدّة استعمالها حتى نهاية نيسان 2013. فإذا انتهت مدّة تنفيذ السلفة، يصبح التوقف عن سداد المبالغ التي تستند إليها إجبارياً.
هنا بيت القصيد الذي يكشف عن «تفاهة» مجلس الوزراء واستنسابية استعمال سلطاته التي قضمت القوانين والقواعد القانونية حتى القضمة الأخيرة. فالعريضي يستند في كلامه إلى أن مجلس الوزراء مدّد مهل تنفيذ سلف الخزينة «إلى حين الانتهاء من الأشغال والمشاريع التي أعطيت هذه السلف للقيام بها» كما ورد في القرار 61 بتاريخ 3 نيسان 2012. إلا أن مجلس الوزراء نفسه، أصدر بعد نحو ثمانية أشهر قراراً يلغي القرار السابق ويوافق على «تمديد مهلة الصرف والدفع لغاية 31 أيار 2013 للنفقات العائدة للعام 2012... ووضع مهلة زمنية لانتهاء مفاعيل سلف الخزينة المعطاة إلى مختلف الإدارات العامة التي سبق لمجلس الوزراء أن وافق على تمديدمهل دفعها حتى انتهاء المشاريع المتعلقة بها على أن يتم إيداع وزارة المال التصفيات العائدة لهذه السلف قبل 30 نيسان 2013 وعلى أن تنتهي مهلة الدفع لهذه السلف بتاريخ 31 أيار 2013».
كل وزارة استندت إلى قرار من القرارات الصادرة عن مجلس الوزراء لتبرّر موقفها. إحدى المعاملات توضح ما جرى بين الجانبين بصورة واضحة؛ ففي نهاية عام 2012 أجرت وزارة الاشغال العامة استدراج عروض محصوراً متعلقاً بتقديم ونقل وتركيب أعمدة إنارة على طريق جسر القاضي (أشغال تأهيل طرق: بيصور ــ سوق الغرب، دوار قبر شمون، بيصور ــ دفون). وبموجب المسار الإداري والقانوني لهذه المعاملة فإنه يتوجب على وزارة الاشغال أن تطلب حجز مبالغ لهذه الاشغال قبل استكمال الملف وصولاً إلى مرحلة عقد النفقة. رفضت وزارة المال أن تحجز المبالغ «لأن حجم هذا النوع من الأشغال المنوي تنفيذه قد يتخطة حدود تصريف الأعمال بمفهومه الضيق». إلا أن وزارة الاشغال أصرّت على موقفها، وأعادت إرسال الملف إلى وزارة المال طالبة حجز المبالغ مجدداً والموافقة «بصورة استثنائية على استكمال عقد النفقة اللازمة»، وأرفقت بالملف رفض ديوان المحاسبة التأشير عليه الملف والتريّث فيه في انتظار الحجز. عندها أصرّ موظفو وزارة المال على موقفهم السابق الرافض لحجز الاعتمادات واقترحوا على المدير العام للمالية ألان بيفاني رفض التأشير، فما كان من بيفاني إلا أن وافقه الرأي ورفع اقتراحه إلى وزير المال محمد الصفدي الذي وافق بدوره على اقتراح المراقب أيضاً الذي يشير إلى أن «الأشغال المطلوبة تتخطى حدود تصريف الأعمال بمفهومه الضيق وخصوصاً انه لم يتم ذكر أي ظرف طارئ أو مستعجل لهذه الأشغال».
إزاء هذا الواقع، اندفعت وزارة الأشغال العامة في سلوك طريق مختلف. طريق أسوأ من الذي سبقه. ففي 16 تموز طلبت وزارة الأشغال «الموافقة الاستثنائية على أشغال إنارة جسر القاضي وتأهيل طريق بيصور وتأهيل طرق زحلة» مشيرة إلى أن هذه الملفات «تتسم بالضرورة والحاجة الملحّة والعاملة». لكن ما خرج من رئاسة مجلس الوزراء لا يمكن وصفه بسبب درجة تدني مستواه القانوني والإداري والوظيفي، فقد اصدر الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي مطالعة قانونية وإدارية تمنح وزارة الأشغال موافقة استثنائية على طلب استكمال عقد النفقة. هذا الموظف «الكبير» في رئاسة الحكومة ألغى قرار مجلس الوزراء الأخير وفسّر القانون «على ذوقه» قائلاً: «نبدي أن استكمال عقد النفقة لتلزيم الملفات (وزارة الاشغال) يدخل ضمن نطاق تصريف الأعمال وفقاً لتعميم رئيس مجلس الوزراء 10/2013... نفيدكم أنه أعطيت الموافقة الاستثنائية على استكمال عقد النفقة اللازمة... على أن يعرض الموضوع لاحقاً على مجلس الوزراء».
بهذه الكلمات حلّ بوجي محل مجلس الوزراء، ومحل أي سلطة تشريعية وقانونية ثانية لتفسير القانون وتبرير ما تقوم به وزارة الأشغال.
مجدداً، طلب مراقب عقد النفقات «اعطاء التوجيهات اللازمة حول ما إذا كانت الموافقة الاستثنائية الصادرة عن الأمين العام لمجلس الوزراء تحلّ صراحة محلّ مجلس الوزراء في تصريف الأعمال»، ثم تسلسلت الردود الرافضة في وزارة المال وصولاً إلى الوزير الذي طلب من المدير العام «عدم السير بالملف كونه يتعلق بالتصرف باعتمادات بشكل لا يدخل في إطار تصريف الاعمال».
بعد ذلك، تعهدت وزارة الاشغال التقيد بسقف الاعتمادات المحدّد في الجزء الثاني (أ) والجزء الثاني (ب) لعام 2013 والبالغة 124 مليار ليرة و48 مليار ليرة. الجزء (أ) مغطّى من سلفات الخزينة التي انتهت مدّتها، أما الجزء (ب) فهو مغطّى من اعتمادات قانون البرنامج.
ماذا تكشف هذه النهاية للملفات الثلاثة المذكورة؟
لا شكّ أن النتيجة تكشف عدداً من الأمور الأساسية في عمل الإدارة العامة يمكن تفصيلها، وفق المطلعين في الإدارات العامة، على النحو الآتي:
ــ إن غياب الموازنة العامة يفتح الكثير من الإشكاليات التي يمكن تلافيها بسهولة لو كانت هناك موازنة مقرّة. واستعمال سلف الخزينة هو استنسابي إلى حدّ ما، لأن قانون البرنامج مثلاً يخصص الأموال لمشروع ما، فيما سلف الخزينة تحدّد قيمة إجمالية تقديرية للمشاريع بالجملة.
ــ إن اللجوء إلى الوسائل البديلة عن الموازنة مثل سلف الخزينة واستدراج العروض المحصور أصبح القاعدة الأساسية بدلاً من أن يكون الاستثناء. فقد اعتمدت وزارة الاشغال على سلف الخزينة لتغطية الإنفاق قانوناً، واعتمدت على استدراج العروض المحصور لتلزيم المشاريع بصورة دائمة. فعلى سبيل المثال لزّمت وزارة الاشغال في عام 2013 نحو 65 مشروعاً بطريقة استدراج العروض قيمتها الإجمالية 271.9 مليار ليرة، وهذا الاستدراج لا يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء سنداً لقانون المحاسبة العمومية، وذلك لو كانت يستوفي شروطه «الاستثنائية». وقد ذهب مجلس الوزراء ووزارة الاشغال العامة في التوسّع في تفسير بعض مواد قانون المحاسبة العمومية المتعلقة بإعلان المناقصات والتي تقول: «يمكن الاستعاضة عن الاعلان بتبليغ المعلومات بطريق سرية ومضمونة للعارضين المناسبين للإدارة». هذه الـ«يمكن» التي لا يمكن تفسيرها إلا بكونها «استثناء» أصبحت حالة دائمة وتحوّلت إلى القاعدة ليستغنى عن تبليغ العارضين وفتح المجال أمام أي وزير بأن يستدعي العارضين ويبلغهم ما يريد بما فيه تقاسم المشاريع والسوق.