قبل سبع سنوات، أحيلت المعلمة فاطمة جابر وزوجها العميد في الجيش على التقاعد. فكرا بطريقة مثلى يستثمران فيها وقتهما والأموال التي جمعاها خلال سنوات عملهما، في عمل مفيد مادياً وعلمياً لهما وللناس.
حينها، كانت تعاني ظهور الكلف في وجهها، فيما ابنتها عانت الأكزيما، لكنهما لم تستفيدا من علاجات عشرات الأطباء، إلى أن وقعا بالصدفة على علاج فعال من الزيوت والصابون الطبيعي. عندها قررت الأسرة، إجراء دراسة على الأعشاب الطبيعية وفوائدها لأنواع الأمراض، وكيفية استخراج الزيوت منها وصناعة الصابون العلاجي. وعلى نحو تدريجي، بدأ الزوجان باكتساب أسرار الصناعة وتطوير وزيادة أنواع الصابون وألوانه من الغار واللوز والعنبر والخزامى إلخ... بالتعاون مع ابنتهما التي تخصصت في علم الأحياء.
كانت جابر وزوجها يخرجان إلى البراري والأودية المحيطة ببلدتهما إركي (قضاء صيدا) لجمع الأعشاب وحملها إلى المنزل، حيث خصصا ركناً خاصاً كورشة صغيرة. حالياً، حجزت الأسرة ركناً خاصاً لها في معظم معارض المنتجات البلدية وسوق الطيب الأسبوعي، تحت اسم «جمعية الرفاه للصابون الحرفي». وفي هذا الإطار، شاركت الأسرة في معرض «تشجيع الابتكار في الصناعات الغذائية» في صيدا. ظن كثير من الزوار أن الأسرة تلقى دعماً من مؤسسات الدولة المعنية، أو من البرامج الأجنبية المانحة بسبب التكلفة العالية التي تنفقها على الصابون، وتنقلها بين المعارض في لبنان والخارج، لكن جابر تؤكد أنها حتى الآن تمول مشروعها من جيبها الخاص، وتعتمد على ثمن ما تبيعه. على نحو مبدئي، تستطيع الأسرة تغطية نفقاتها، إلا أنه لا قدرة لها على تطوير الورشة إلى معمل، إذ إنها تعتمد على الوسائل البدائية في الصناعة، ما ينتج كميات أقل من اللازم، وتحتاج إلى أدوات العجن والطبخ والقطع إلخ.
من جهته، رتب خطار توبة منتجات مناحله من العسل والشهد التي ينتجها في إطار تعاونية الإنتاج والتسويق في عيترون، التي تنتج أيضاً الألبان والأجبان ومشتقاتهما. خطار وأكثر من 11 سيدة من البلدة، استفادوا من مبادرة أحد المهندسين الزراعيين في البلدة حسن حمد، بتأسيس التعاونية واستثمار قدرات نساء عيترون في الإنتاج الريفي، وتحويله إلى مورد معيشة لهن. التعاونية افتتحت قبل سنوات، معملاً كبيراً في البلدة مجهزاً بالأدوات اللازمة بتمويل من الاتحاد الأوروبي ومؤسسة جهاد البناء وجمعية التعاونيات الزراعية في لبنان.
صابون إركي وعسل وألبان عيترون تأمل أن تفتح امامها سبل التعاون مع غرفة التجارة والصناعة والزراعة في صيدا والجنوب، وتحديداً جمعية احتضان الأعمال ومركز الأعمال المستدام والمستقل، الأول من نوعه في الجنوب، والتابع للغرفة. وهو واحد من ثلاثة مراكز مشابهة عاملة في لبنان. وتوفر لأصحاب المؤسسات الصغيرة والحرف والمهن خدمات قيمة مضافة وخدمات الاحتضان للمؤسسات المبتدئة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم القائمة، ودعم روحية المبادرة من خلال فرص التشبيك بينها، وزيادة صفقات الأعمال وتحفيز الابتكار عبر تأمين أرضية لتبادل المعرفة، علماً بأن الغرفة افتتحت مختبراً زراعياً نال شهادة «الآيزو العالمية»، وقسماً للترشيد والتدريب والحصول على القروض، وضعتهما بتصرف من يرغب من تجار ومزارعي وصناعيي صيدا والجنوب.
يقول رئيس الغرفة محمد صالح لـ«الاخبار» إن الغرفة تنظم سلسلة معارض على مدار السنة، لتعيد تسليط الضوء على قطاع الصناعة الجنوبي، الذي كان مزدهراً قبل الاحتلال الإسرائيلي، وتوالي الاضطرابات الأمنية. اختيار الغرفة البدء بالصناعات الغذائية بسبب قدرة الجنوبيين، ولا سيما النساء، على التصنيع الغذائي والريفي بسهولة وبربح أكيد، بسبب توافر المواد المطلوبة، وتدني الكلفة بالنسبة إلى الصناعات الأخرى. وأكد صالح أنه لو «اشتغل الجنوب كله بالصناعات الغذائية فلن يسد حاجة السوق المحلي». وتوقف عند نسب استيراد تلك المواد من الخارج سنوياً، منها 75 مليون دولار تنفق على استيراد المربيات، و60 مليوناً على استيراد الأجبان. وفي هذا الإطار، اقترح على إحدى السيدات المشاركات في المعرض الاخير تطوير صناعة مربى العليق، وعرض عليها تأمين شتول «بلاك بيري»، ذات الشوك القليل لتصنع منها المربى الغالي الثمن في الأسواق، الذي تستورد معظم كمياته من الخارج.
في المقابل، يؤمن صالح بنجاح الصناعات التحويلية التي تزدهر في صيدا والغازية خصوصاً. وبرغم تفاؤله بالقدرة على تحسين واقع الصناعة، إلا أنه يدرك أن القفزة النوعية لا يوفرها إلا إنشاء منطقة صناعية خاصة بالجنوب، تمثّل تجمعاً للمحال والورش والمعامل، وتتوافر فيها المواصفات العالمية بوجود منامة للعمال ومطاعم ووسائل الإطفاء. وأعلن صالح أن الغرفة أصبحت في مرحلة شراء العقار في منطقة مثلث الزهراني بين النبطية وصور وصيدا، في غضون خمسة أشهر، وذلك بعدما وُضعت الخرائط والدراسات الإنشائية، وبعد وعد البنك المركزي بتأمين قرض للغرفة لإنشائها. ويتوقع صالح أن تحيي المنطقة عهد الصناعة الجنوبي عندما كان هناك قبل الاحتلال الإسرائيلي 113 مصنعاً من المنطقة الحدودية حتى النبطية، فيما كان في بنت جبيل وحدها 250 معملاً لصناعة الأحذية، إضافةً إلى أربعة معامل للشوكولا الفاخر، ومعامل للبلاستيك والخشب والمفروشات. فضلاً عن صناعة السجائر من خلال زراعة التبغ، التي لا يزال يشتهر بها الجنوب، الذي انتشرت في بلداته أعمال تخزين البرغل والحبوب على أنواعها، وتوضيبها في أكياس وبيعها على مدار السنة. على نحو تدريجي، تضاءلت أعداد المصانع والمعامل، إلى أن انعدمت بعد عدوان تموز، حين تعرض 15 مصنعاً للقصف. حالياً، هناك 350 مؤسسة تنتج صناعات ثالثة ورابعة وحرفية، و50 مؤسسة تنتج صناعات ثانية.