تنطلق الشابات الثلاث في رحلة بالسيارات في موازاة خطوط سكك الحديد: تانيا خوري شمالاً، عبير سقسوق جنوباً، وبترا باتجاه البقاع! هدف مجموعة «الدكتافون» هذه المرّة أيضاً تسخير تقنيات العرض الحي المرتكز على الأبحاث الميدانية في تسعير النقاش حول مفهوم الحيز العام. فبعد «التلفريك» و«باص الدولة» والشختورة في «هذا البحر لي» الصيف الماضي، اختارت المجموعة الناشطة القطار مشروعاً جديداً بعنوان «تصريح».
القطار، بحسب العرض الذي قدّمته المجموعة أخيراً في بيروت من خلال «محاضرة أدائية» (محاضرة بأداء مسرحي) في «أشكال ألوان»، لا يظهر مجرد وسيلة نقل، بل يأخذ أبعاداً مختلفة ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية. ولا يتوانى العرض عن التركيز على وجود أهداف تتصل بهذه الأبعاد جميعها تكمن وراء تغييب القطار في لبنان ومنع انطلاقه مجدداً. لذلك تكشف «الدكتافون» بجرأة عن أسماء شخصيات سياسية تعتبرها متورطة في دفن القطار اللبناني.
يعبر العرض إلى عمق الذاكرة الجماعية للـ«تران»، عبر رحلة يتداخل فيها الزمان بالمكان، تبدأ من محطة مار مخايل ومن عام 1891 (ذكرى انطلاق أول قطار) وتتجه نحو الحدود مع سوريا شمالاً وبقاعاً، ومع فلسطين جنوباً. وتنتهي الرحلة مع رحلة آخر قطار في عام 1994.
تروي تانيا وعبير وبترا قصصاً متبعثرة على جوانب السكك الحديدية التي اختفت بمعظمها تحت أبنية ومنشآت وطرقات وعشب كثيف. لكنها قصص تجسّد ذاكرة جماعية قضى عليها «لصوص» الأملاك العامة وسارقو «الحديد» ومصالح السياسيين. وأسباب أخرى سياسية واقتصادية، قضى جميعها على كل أمل كان معقوداً بعد الحرب الأهلية لإعادة تأهيل «منشآت السكة» وإحياء القطار الذي تحول إلى صدأ.
تستخدم مجموعة «الدكتافون» وثائق كثيرة لتقديم بعض الحقائق عمّا حصل لسكك الحديد والمحطات والقطارات. كل قصّة تروي تفاصيل ما حدث ومن المسؤول؟ تفاصيل تكشف كيف مُنع في عام 1994 استكمال رحلة آخر قطار بعد جهود حثيثة لعودته في عام 1992، كانت حجّة الرئيس الراحل رفيق الحريري يومها أنه يمتلك مشروعاً لإنشاء قطار دولي لم يرَ النور قط. وكيف رُدمت محطة صيدا ليقوم عليها مشروع كبير للحريري أيضاً. وكيف في عهد الرئيس فؤاد السنيورة كان يُسقَط رقم عقار معين من أملاك سكك حديد إلى أملاك الدولة الخاصة ليجري التصرف به وبيعه. وكيف كانت ستتحول محطة عاريا إلى حلبة «كارتينغ» قبل أن تمنع ناشطة بيئية حدوث الأمر. وكيف تحولت محطة عاليه إلى مطعم. وكيف رُدمت محطة المعلقة ليبنى عليها مستشفى «إلياس الهراوي الحكومي». وكيف كانت تستخدم محطة رياق مركزَ تعذيب تابع للجيش السوري... وكيف وكيف؟ مخالفات لا تُعَدّ ولا تحصى، منها بيع بعض القطارات للكسر وتحويل أراضي السكك إلى مجمعات سكنية وسياحية... وثائق مقرونة بخريطة تُوزَّع على المشاهدين قبل بدء العرض تظهر وضع محطات السكة الآن والتعديات عليها.
تبدّلت المعالم كلياً على طول سكك الحديد، هذا ما تحاول قصص «الدكتافون» أن تظهره، لا على الأرض فحسب، بل في الذاكرة الجماعية. قصص تروي نزوح الفلسطينيين عبر القطار، ونشوء مخيمات اللاجئين على جوانب السكك. وقصص الأطفال وألعابهم... قصص تستفز المشاهد وتجعله يتساءل عن سبب منع إعادة إحياء وسيلة نقل بهذه الأهمية؟ وسيلة قادرة على المساهمة بفعالية في تحقيق التنمية وتشجيع الاستثمار والعمل والسكن بعيداً عن المراكز المدينية الأساسية، وقادرة على تجنيب العاصمة النزوح السكاني الكبير الذي يعزز المضاربات العقارية وارتفاع كلفة السكن وانخفاض مستوى المعيشة وزيادة التلوث والضرر البيئي.
يجمع الخبراء على أنّ القطار يُسهم أيضاً في تعزز النمو الاقتصادي وتسهيل حركة التجارة داخلياً وخارجياً، وتسهيل نقل البضائع من المرفأ إلى الداخل اللبناني والسوري، بالإضافة لنقل المحروقات السائلة إلى محطات توليد الكهرباء. هذا فضلاً عن نقل الأشخاص «الوفّير» للوقت والمال وللبيئة.
لا تستكمل «الدكتافون» رحلتها التي كان من المفترض أن تنتهي في سوريا وفلسطين. فالعرض يهدف أساساً، من خلال عنوانه «تصريح»، إلى الغوص في مفهوم الحدود. يقف العرض عند الحدود، هناك تدير كل من تانيا وعبير وبترا ظهورهنّ للبنان وينظرن باتجاه الداخل العربي. واقعياً، تبدو كل واحدة كأنها تدير وجهها للحائط. الحدود تضيق كلما تقدم الزمن. حدود داخلية وخارجية حتى أصبحت خريطة البلد الصغير كلوحة سوريالية كلها خطوط. خطوط طائفية ومناطقية، حسب «الدكتافون»، يجب إعادة تكوين مفهومها. حواجز «الطائفية» تمنع القطار من العبور بين المناطق في الداخل، وخارجياً حواجز «الحروب» حتى بتنا نعيش في سجن كبير تتقلص مساحته شيئاً فشيئاً.

■ تهدف مجموعة الدكتافون إلى التجوال بهذا العرض على جميع أنحاء العالم العربي، وفي كل دولة عربية يُوسَّع العرض الأدائي من خلال بحث ميداني إضافي، يتناول قدرة الناس على التنقل في هذا البلد وخارجه ورواية قصص عبورهم الحدود.