ريف دمشق | تقع بلدتا صحنايا والأشرفيّة إلى الجنوب من مدينة داريّا، التي تعدّ المركز الاقتصادي والبشري الرئيسي في الغوطة الغربية، وتفصل بين البلدتين والمدينة مئات من الأمتار تتربع عليها بساتين داريّا التي غزتها في السنوات الأخيرة ورشات الموبيليا والنجارة بعدما كانت إحدى معالم «الخضرة» المتبقيّة في الغوطة.
استبق الأهالي في صحنايا والأشرفية الحرب بوقت كثير فأبرموا اتفاقاً مع مشايخ من داريّا، في الشهر الثالث من العام الماضي، حول ضرورة التزام كل الأطراف بالحفاظ على السلم الأهلي بين المنطقتين، مهما حصل. يقول أبو فارس (76 عاماً، يساري قديم) لـ«الأخبار»: «ذهبنا أنا ومجموعة من المشايخ والمطارنة إلى داريّا، والتقينا هناك بشيخين منهم، وقلنا لهم: كنّا على عهدنا قبل الحكم وسنكون كذلك بعده»، ثم شرح لنا أبو فارس أن هذه الأقنية بين المنطقتين ليست بجديدة، وهي موجودة منذ عهد الاحتلال الفرنسي، إلا أن ضعف القوى السياسية في منطقة الغوطة الغربية جعلها محصورة بيد رجال الدين المؤثرين في أوساطهم الاجتماعية. وأضاف: «تم الاتفاق على إبقاء صحنايا والأشرفية بعيداً عن المعارك، وقلنا لهم من ينزح إلينا من أهلكم مصيره مصيرنا، وما عليكم سوى الحفاظ على العهد، وبالفعل ما زلنا على الاتفاق».
لكن المخاوف التي حرّكت المجتمعين لإبرام اتفاقهم قد تحققت، فمنذ تسعة أشهر وحتّى الآن، تحولت بساتين داريّا إلى ساحة معركة كبيرة تفصل ما بين قوات من الجيش السوري، وحدات من الحرس الجمهوري الفوج 101، التي تتركز جنوبي بساتين داريّا، بمحاذاة صحنايا والأشرفية، وما بين مقاتلي المعارضة المسلّحة بتلاوينهم المختلفة من جهة داريّا. وكان الإعلام الرسمي السوري قد أعلن في شهر تشرين الثاني من العام الماضي عن اقتراب موعد الحسم العسكري في داريّا، مدعماً إعلانه هذا بأن القوات المسلّحة تحاصر المدينة من المحاور الأربعة وتحرز تقدماً بشكل يومي عليها؛ إلا أن المعركة استمرت إلى اللحظة، وتكيفت المنطقة مع كونها ساحة دائمة للحرب، بالرغم من الحديث عن معالجة الوضع في داريّا بطريقة استثنائية، حيث يعد تواجد مسلّحي المعارضة أضعف قياساً بالغوطة الشرقية، ولكون داريّا شبه خالية من السكان، وكون البيئة الاجتماعية المحيطة بحدود داريّا الجنوبية والغربية عارضت خيار التسلّح ضد الدولة. يقول محمد شربجي (اسم مستعار) لـ«الأخبار»، وهو أحد الناشطين في المصالحة الوطنية، تمكّن غير مرّة من الوصول إلى داخل داريّا مع مجموعة من المتطوعين بالمصالحة الوطنية: «تبيّن لي أن المسلحين، الذين يفترض أنهم محاصرين من كلّ الجهات، بمقدورهم التواصل مع خارج داريّا، فقد لاحظت وجوهاً تتجدّد بينهم من مرة إلى أخرى، لا تنتمي إلى أيّة منطقة من الريف، إما من درعا أو من الأردن، وهي أكثر تشدداً في رفض الحوار والحل السياسي»، وأن بقاءهم صامدين إلى اليوم يؤكد أن الإمدادات تصلهم من حين إلى الآخر.
وكان تجّار دمشق قد نقلوا بضائعهم في الغوطة الشرقية إلى مستودعات داريا، عندما بدأ الصراع المسلّح في الغوطة الشرقية، ويومها لم تشهد داريّا أي عمل مسلّح يذكر؛ يؤكد الشربجي لـ«لأخبار» أن السبب في إطالة معركة داريّا هو تواطؤ المسلّحين مع بعض عناصر من الأمن على حواجز داريّا على سرقة هذه المستودعات، وتمريرها إلى خارج المدينة لتصريفها، ويضيف: «لقد توصلت إلى نتيجة مفادها: أن معركة داريّا لن تتوقف حتى سرقة آخر مستودع في داريّا».
لم يعد ممثلي الأهالي في صحنايا والأشرفية ينظرون إلى الاتفاق الذي أبرم بينهم وبين جيرانهم قبل عام ونصف العام بعين الثقة، ذلك أن تحولات كثيرة ألمّت بالمشهد منذ ذلك الوقت وحتى الآن؛ يمكن تحديد ثلاثة أسباب رئيسية لذلك:
ـــ الأول: هو التغير في تركيبة مسلحي داريّا، فعندما بدأ العمل المسلّح هناك انطلق على يد مجموعات من أبناء المدينة، تحت مسمّى «حماية التظاهرات»، إلا أن التركيبة اليوم تختلف إلى حد بعيد، «فلم يعودوا أهالي داريّا هم الأساسيون، بل يوجد عناصر أجنبية تقود المعارك وبالتالي فقد نُسف أي اتفاق بيننا تلقائياً»، يقول أبو فارس أحد صاغة الاتفاق.
ـــ السبب الثاني يتمثّل بقيام بعض عناصر «اللجان الشعبية» بالإساءة إلى الاتفاق، عبر قيام بعضهم بالدخول إلى بعض البيوت في أحياء داريّا القريبة من الأشرفية وسرقة مقتنياتها، ويؤكد معروف شعبان (مقرّب من أوساط اللجان الشعبية في صحنايا) لـ الأخبار»: «ألقى الجيش القبض على خمسة عناصر من اللجان الشعبية، بعد خروجهم من مفرق الفصول الأربعة (شمال الأشرفية)، بعد قيامهم بسرقة بيوت خالية من أهلها هناك». ويضيف: «هؤلاء يسعون إلى جلب الدمار لصحنايا والأشرفية، لأن أعمالهم تلك بمثابة ذريعة جاهزة لدى المسلحين للانقضاض على صحنايا والأشرفية متى أرادوا ذلك» لا سيما وأن في كل بلدة منهما أقل من ثمانين عنصراً من اللجان الشعبية، وهو عدد لا يقارن بأعداد مسلحي المعارضة في داريّا.
ــ السبب الثالث هو وجود أعداد كبيرة من النازحين من داريّا إلى صحنايا والأشرفية، فقد تضاعف عدد السكان في البلدتين تقريباً، ومع تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في ريف دمشق، تغدو المعيشة هناك أمراً لا يطاق، فغلاء الأسعار ونقص السلع وتدهور الخدمات وانخفاض مستوى الأمان، كل هذا يولّد مختلف أشكال التناقضات الثانوية بين الأهالي، وعلى رأسها التناقض الطائفي، ولا سيما عندما تغذي هذه التناقضات ممارسات من جهات متعددة: قذائف الهاون الآتية من جهة داريّا، ممارسات مسيئة للأهالي من عناصر من اللجان الشعبية.