الآن جاء وقت المزايدات؛ أولئك الذين كانوا إلى الأمس القريب يسخرون من دور سوريا المركزي في المقاومة، وعَمَلها الحثيث على بناء التوازن الاستراتيجي مع العدوّ الإسرائيلي، باتوا، اليوم، يعترفون بهذا وذاك، ولكن فقط للمزايدة الفارغة على نظام الرئيس بشار الأسد، لأنه قبل بالتسوية الروسية الأميركية لملفّ السلاح الكيميائي السوري!
سآخذ من المزايدين نصاً لأكثرهم اتزاناً؛ القيادي الشيوعي اللبناني ـــ بل والمحسوب على خط المقاومة في حزبه ـــ سعد الله مزرعاني. (عنوانه: من الذي انتصر؟ الأخبار 14 أيلول 2013) وأحلّله تالياً.
نص مزرعاني القصير مفكك إلى ثلاثة أجزاء لا رابط بينها؛ ففي الجزء الأول، الذي يشغل فقرة واحدة، يعترف الكاتب بأن تسوية الكيميائي السوري، كشفت «حجم تراجع قوة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم»، لصالح منافسيها الذين لم يسمّهم، ربما خجلاً من تسمية روسيا والصين وإيران.
في الجزء الثاني، الذي يشغل معظم النص، يقفز مزرعاني إلى امتداح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، كونه تعلّم من الأخطاء الأميركية في العراق، وكونه التزم الشفافية في الكشف عن الخلافات الداخلية حول الخيار العسكري ضد سوريا، ثم يشيد بـ«لمسته الخاصة» في إدارة السياسة الأميركية، وبـ«صراحته» و«هدوئه» وقدرته على «تدوير الزوايا». وخلاصة الرأي، عند الكاتب، الإشادة بـ«قدرة الإدارة الأميركية على الإفادة من التجارب و«الإخفاقات»».
ولا ينسى الكاتب إسرائيل التي، كالولايات المتحدة، تتعلّم من أخطائها، وتعمل على تجنّبها لاحقاً، فيما يخصص الجزء الثالث من نصه للتعريض بمن يعتبرون التسوية الروسية الأميركية حول الكيميائي السوري، انتصاراً.

(1)


التغيير الحاصل في ميزان القوى الدولي ضد الإمبريالية ليس مفاجأة، وإنما هو عملية تراكمية لطالما تتبّعها الذين يرون الواقع التاريخي في حركته الفعلية، ولا يغترّون بخطاب «نهاية التاريخ» لصالح الليبرالية. نجم ذلك التغيير عن الاختراق الصيني الكبير المستمر في المنافسة الاقتصادية الدولية، ونهوض الدولة القومية في روسيا، وتعافي اقتصادها، وتزايد قدراتها العسكرية، واتساع مصالحها الدولية التي تفرض عليها العودة إلى القيام بدور عالمي. كذلك، لا يمكن إغفال تنامي قوة إيران الإقليمية، ولا المقاومة العراقية التي حوّلت انتصار بوش الابن إلى إخفاق يحتاج إلى مراجعة السياسات. (يعرض مزرعاني القصة من وجهة نظر الولايات المتحدة؛ فيتحدث عن أخطاء وإخفاقات أميركية، لا عن غزو أميركي واجهه العراقيون ببطولة، محطمين، واقعياً، قدرة الجيش الأميركي على شن غزوات جديدة، ربما لزمن قد يطول)، ثم مَن ينسى دور المقاومة في لبنان، وتصديها للعدوان الإسرائيلي (الأميركي العربي الرجعي) عام 2006، ما أحبط مشروع الشرق الأوسط الجديد. وأخيراً، تجسّد كل ذلك المسار من التحولات الدولية والإقليمية في الصراع في سوريا وحولها.

(2)


هنا، مَن يستحق الإشادة، ليس الإمبريالي المنافق، باراك أوباما، بل الرئيس السوري الشاب الذي أبدى من صفات الصمود وقوة الشكيمة والصبر والهدوء في مواجهة الهجمة البربرية على جمهورية العروبة والمقاومة ما يمكننا أن نصفه بأنه المفاجأة السورية. ولولا أن مزرعاني امتدح أوباما، لما توقّفتُ عند الأسد؛ فصانعو المقاومة الوطنية السورية ضد جيش الغزاة الإرهابيين ـــ جيش واشنطن وتل أبيب وأنقرة والرياض والدوحة ـــ هم مقاتلو الجيش العربي السوري ورفاقهم من مقاتلي حزب الله، وبالأساس الشعب السوري، وهذه الدولة القوية التي بناها بعرقه ونضاله. صمود سوريا هو الذي مكّن روسيا من أن تظهّر حضورها الدولي، وسمح لإيران بعلوّ موقعها الإقليمي.

(3)


يجرحنا، نحن الذين حملنا دماءنا على أكفّنا دفاعاً عن سوريا المقاومة، اضطرارها إلى التخلي عن سلاحها الكيميائي؛ يجرحنا ويوجعنا ولا نعدّه انتصاراً بل خسارة، كان لا بدّ منها لأن ميزان القوى ـــ رغم اعتداله ضد مصلحة الإمبريالية ـــ لا يزال يقف في مكان وسط يفرض حلاً وسطاً: تنازل سوري في الكيميائي، مقابل تنازل أميركي، يتمثل في التراجع العسكري ـــ الذي يكشف الضعف الاستراتيجي الأميركي ـــ ووقف تسليح الإرهابيين، وفتح الطريق أمام جنيف 2.
لم يكن العدوان يستهدف الكيميائي السوري، بل إسقاط الأسد وتحطيم الدولة الوطنية وجيشها وتقسيم البلد، وتسليمه للإرهابيين والعملاء. ولذلك، فإن هؤلاء وسادتهم أُصيبوا بالإحباط جراء التراجع الأميركي عن قرار الحرب. ونختم بأن هذا التراجع، الذي تعددت أسبابه، كان يحتاج إلى المبادرة الروسية، لكي يكتمل.
التنازل عن الكيميائي ليس انتصاراً، لكنه أصبح، في لحظة ما من الصراع، الثمن الذي يجب دفعه لتجنب الحرب الشاملة، وضمان الانتصار السوري على الإرهاب والتقسيم، والحفاظ على سوريا المقاومة.