في كل مرة يعلن فيها عن مرضِ الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، أو يحتفلُ بعيد ميلاده لا تكادُ وسائلُ الإعلام العالمية تتوقف عن عرضِ تقارير حولَ مسيرته النضالية التي توِّجت ــ بحسب معظم تلك التقارير ــ بإسقاط نظامِ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عبر «سياسة اللاعنف». وتذهبُ بعضُ التقارير إلى حدّ اعتبار مانديلا تلميذَ المهاتما غاندي الذي كانتْ جنوب أفريقيا بالنسبة لهُ البلد الذي تبلورت فيه أفكار غاندي حولَ «اللاعنف» كخيارٍ حاسمٍ لإسقاط الاستبداد.
ما أخشاهُ هو أنَّ ربط اسم مانديلا «باللاعنف» مسألة تكادُ لا تكون دقيقة كما يكشفه تاريخُ الرجل، تاريخٌ أكثر ما يميزه هو اعتماده الكفاح المُسلح كوسيلة لإسقاط الاستبداد.
مما لا شكّ فيه هو أنَّ ثقافة اللاعنف nonviolence التي اختطَّها غاندي كانَ لها تأثير كبير على جيلٍ كاملٍ من الناشطين ضدَ الاستبداد حول العالم، بعضُ هؤلاء تبنى هذه الثقافة حتى النهاية مثل مارتن لوثر كينغ الذي آمنَ بأنَ «المسيحُ هو الذي حدّد لنا الأهداف، أما غاندي فقد علّمنا تكتيك الوصول إليها»1، والبعضُ الآخر اعتنق اللاعنف في بداية مسيرته النضالية ثم تخلى عنها لغير رجعة كما حصل مع نيلسون مانديلا، ذلك المناضل الذي انضمَّ عام 1944 إلى المؤتمر الوطني الأفريقي ANC، معلناً عشيةَ انتخابه رئيساً له عام 1952 أنَّه سيعتنقُ اللاعنف وسيلةً من أجلِ إسقاط نظام حُكم البيض الذينَ حوّلوا أصحابَ الأرض إلى عبيدٍ بنزعهم الملكية عن ثلاثة ملايين ونصف مليون زنجي دون أدنى تعويض، ومنعوهم من تملك أكثر من 13 بالمئة من أراضي المحميات المخصصة لهم حصراً. هذا بالإضافة إلى أنَّ نظام الأبارتيد apartheid مارسَ كلَّ أشكال الإقصاء السياسي والوجودي ضد أبناء البلد الأصليين. مسيرةُ مانديلا مع سياسة اللاعنف استمرتْ ثماني سنواتٍ فقط، بعدها أعلن عام 1960 عن تخلّيه عنها كوسيلة لإسقاط نظام الأبارتيد، فهذه السياسة ــ على حدّ تعبيره ــ « لم تؤتِ بنتيجة» بعدَ أنْ واجهتْها حكومةُ جنوب أفريقيا بالمجازر2. من هنا بدأت مسيرةُ الكفاحِ المُسلّح لمانديلا، فسافرَ إلى الجزائر، واتبعَ هناك دوراتِ تدريب عسكرية، وعادَ بعدها إلى بلاده ليؤسس فصائل الـ MK ــ الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي ــ التي نفَّذت ما بين عامي 1961 و1963 قرابة مئة وتسعين هجوماً مسلحاً سقطَ على اثرها عدد من الضحايا المدنيين3. اعتُقلَ مانديلا في آب 1962 وحُكِم عليه بالسجن المؤبَّد مع الأشغال الشاقة ليتوقفَ بعدها ــ إلى حين ــ النشاط المُسلَّح لفصائل الـ MK قبلَ أنْ يعودَ من جديد في فترة الثمانينيات تزامناً مع فتحِ باب التفاوض ما بينَ نظام بريتوريا ومانديلا السجين.
استئنافُ العمل العسكري تمَّ بضوءٍ أخضر منْ مانديلا، وردّت عليه حكومة بريتوريا بتشكيل كتائب الموت التي لاحقت عناصر المؤتمر في جنوبِ أفريقيا وفي أوروبا.
في عام 1985 عرضَ رئيس جنوب أفريقيا، بيتر وليام بوتا، على مانديلا إطلاق سراحه مقابل تخليه عن الكفاح المُسلّح، رفضَ مانديلا التفاوض مُعلناً أنَّ «الرجال الأحرار هم الذين يفاوضون، أما السجين فلا يستطيع عقدَ اتفاقات». في عام 1988 أُطلِقَ سراحُ مانديلا ليوضعَ رهنَ الإقامة الجبرية، وليوجِّه عام 1989 رسالة لبوتا يؤكد فيها «أنَّ المفاوضات المباشرة بين الحكومة والمؤتمر الوطني الأفريقي هي السبيلُ الوحيدُ لوضع حدٍ للعداوة بين معسكرين يقتلان بعضهما البعض». في 11 شباط من عام 1990 أطلقَ فريدريك دوكليرك ــ الرئيس الجديد لجنوب أفريقيا ــ سراحَ مانديلا، وفي ذات اليوم ــ ومن على شُرفة بلدية الكاب ــ أعلنَ مانديلا «أنَّ الكفاحَ المُسلَّح للمؤتمر الوطني الأفريقي لم ينتهِ... وأنَّ لجوءنا إليه في عام 1960 كانَ عملاً دفاعياً خالصاً لمجابهة التمييز العنصري... والعوامل التي ألجأتنا إليه مازالتْ قائمة إلى اليوم، لذلكَ ليس لدينا خيارٌ آخر إلا الاستمرار بالنضال المُسلَّح4.
يبدو أنَّ تهديدَ مانديلا بالكفاح المُسلّح كخيارٍ حتمي لإسقاط نظام الأبارتيد لعبَ دوراً في دفع حكومة دوكليرك لإبداءِ مرونةٍ في السيرِ بالحل السياسي السلمي، هذه المرونة ربما لمَسها مانديلا الذي أعلن في 26 من شباط 1990 نبذ العنف المُسلَّح، وليديرَ بعدها شخصياً ــ في 6 آب 1990 ــ المفاوضات لكتابةِ دستور موقت للبلاد، وليُنتخبَ رئيساً لجنوب أفريقيا عام 1994.
القراءةُ الواعيةُ لانتفاضاتِ الشعوب ضدَ الاستبداد ــ بدءاً من سبارتكوس وحتى اليوم ــ تُبينُ أنَّ قادة تلك الانتفاضات كانوا يواجهونَ المُستبد بنقاط ضعفه ليضمنوا النصر لقضيتهم. من هنا أصرّ غاندي على المُضي في سياسة اللاعنف لمواجهة آلة القتل البريطانية وانتصر، على حين رأى مانديلا أنَّ سياسة اللاعنف في مواجهة الأبارتيد لنْ تتكلل بالنجاح، فتخلى عنها معلناً بصراحة أنّ تبنيه لها لم يكن إلا «قراراً براغماتياً تمَّ اتخاذه بعد تقييم باقي القرارات»، وبالتالي لم يكنْ قط «قراراً أيديولوجياً استراتيجياً» 5.
التباين في موقف مانديلا، من جهة، وغاندي، من جهة أخرى، تجاه سياسة اللاعنف يبدو جلياً من خلال ردةِ فعل كل منهما إزاء المجازرِ المُرتكبة بحقِ أبناء جلدتهما، فمثلاً كانت مجزرة شاربفيل ــ في 21 آذار 1960 ــ آخرَ عهد مانديلا بسياسةِ اللاعنف (على الرغم من استمرار التظاهرات السلمية خلال فترة سجنه)، فعلى أثرِ إطلاقِ النارِ على تظاهرة ٍسلميةٍ لخمسةِ آلافِ ناشطٍ، ووقوع تسعة وستين ضحية بينهم عشرة أطفال، أعلنَ مانديلا تخلّيه عن خياره السلمي ليتحولَ بعدَها إلى قائدٍ عسكري يقودُ حربَ عصاباتٍ ضد حكومة بريتوريا. في المقلب الآخر، كانت مجزرة ارميتسار نقطةَ تحوّلٍ هامةٍ في مسيرةِ اللاعنف لدى غاندي، في هذه المجزرة سقطَ 1516 متظاهراً سلمياً بعد أنْ أطلقَ عليهم جنود الجنرال داير 1650 رصاصة، و ليخرجَ غاندي بعدها ويعلن إصرارهُ على التمسكِ باللاعنف طريقاً لتحرير الهند، وليطلبَ من أنصاره الامتناعَ عن كلِّ أشكالِ التخريب «فإذا قمتم بالتخريب كنّا نحنُ المجرمين وهم القانون»، مؤكداً على قناعته بـ«أنّ هناكَ الكثير من القضايا التي أنا على استعدادٍ للموت من أجلها، ولكن لا توجد قضية واحدة تدفعني لارتكابِ القتل في سبيل إعلائها»، إذ «ما الذي سوفَ يتغير في حياة الموتى واليتامى والمُشردين إذا كان الدمارُ الجنوني قد ارتُكب باسم الاستبداد أو باسم الحرية والديمقراطية... فالنصرُ الذي يُنتزعُ بواسطةِ السيف هو كالهزيمة لأنَّه لحظي».
ما منْ شك في أنَّ سقوط نظام الابارتيد ــ الذي أعلنتهُ الجمعية العامة للأمم المتحدة في 6/11/ 1971 جريمة ضد الإنسانية ــ هو نصرٌ للبشرية جمعاء بمقدار ما هو نصرٌ لشعب جنوب أفريقيا، لكن الأسئلة المطروحة وبإلحاح هي التالية:
لماذا تُصرّ معظمُ وسائل الإعلام في العالمين الغربي والعربي ــ ومن بينها مجلة التايمز6ــ على ربطِ اسم مانديلا بـ«اللاعنف» مع أنَّ مانديلا لم يُسقطْ حكمَ الأبارتيد إلا عبرَ خيار المقاومة المُسلّحة سواء بممارستها أو بالتهديد بها؟
ألم يكنْ البلدَ الأول الذي زارهُ مانديلا بعد إطلاق سراحه هو كوبا؟
ألم يُعلنْ منْ هناك أنَّ غيفارا ــ وليس غاندي ــ رمزه وأيقونته؟
ولماذا يُصرُّ بعض المؤرخين على أنَّ مانديلا قد أتمَّ ما بدأه غاندي كما لو أنَّ غاندي قد طردَ المستعمر البريطاني بقوة السلاح وليس بقوة الإيمان بالسلمية؟
هل باتَ مانديلا يشعرُ بالحرج من حقيقةِ كونه حرَّرَ جنوب أفريقيا بالمقاومة المُسلّحة، وإلا ما الذي يمنعه من إعلان هذه الحقيقة في كل مرّة يصرّ فيها الغرب على جعله «المهاتما مانديلا» بدلاً منْ مانديلا المؤسس لفصائل الـ MK المُسلحة؟
ربما كانتْ الإجابة عن تلكَ الأسئلة تكمُن ــ بتقديري ــ في أنَّ الحلفاء اللدودين لنظامِ الأبارتيد (الغرب وواشنطن وإسرائيل) يصرّون على إخفاء الهزيمة التي لحقتْ بهمْ من جرّاء سقوط نظام أمدّوه بكل أسبابِ الدعمِ العسكري واللوجيستي وفي كل المحافل الدولية، وإدانتهم الخجولة لمجازر الأبارتيد تشبهُ إدانتهم لمجازرِ «إسرائيل» التي صوّتت ــ مع واشنطن ــ ضدَ كلِّ القراراتِ الأممية التي تُدين مجازرَ نظام الأبارتيد بحق سكّان البلاد الأصليين. «إسرائيل» التي تحظى اليوم بدعمٍ يفوق الدعمَ الذي حظي به نظام جنوب أفريقيا العُنصري، وسيحظى كلّ من سيختار «ثقافة اللاعنف» في مواجهتها بتغطية إعلامية ذات طابع «طُُهري» تحوِّله إلى «مهاتما»، وتحوّل فلسطين إلى «وطن افتراضي»، وفي الوقتِ عينه تصبح «إسرائيل» من النهر إلى البحر الحقيقة الوحيدة القائمة على الأرض.
ربما يرغب حلفاءُ الأبارتيد ــ عبر تركيزهم على أنَّ مانديلا انتصرَ لاعتناقه مبدأ اللاعنف ــ أنْ يظهروا بمظهرِ الداعم لانتصارِ الدم على السيف، فهمُ لا يريدونَ الاعترافَ بأنَّ القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المُحتل وداعموه، ويتعامى هؤلاء عمداً عن ثلاثينَ عاماً منَ الكفاحِ المسلَّح التي توِّجت بنيل شعبِ جنوب أفريقيا لحريته وبقوة السلاح. فهذا السيناريو يخشونَ أنْ يتكررَ مع حليفتهم «إسرائيل»، فتراهمْ يروجون لحلولٍ سلميةٍ، ومقاومةٍ منزوعة الأنياب تُمكّن «إسرائيل» من الذهاب بعيداً في سياسات التهويد والاستيطان ومقايضة اللاجئ اليهودي باللاجئ الفلسطيني.
وأخيراً ــ وبالرغم من الريبة التي تحيطُ معايير منح جائزة نوبل للسلام ــ فإنَّ غاندي لم يحصلْ عليها مع أنّه رُشح إليها مرات عدة كان آخرها عام 1987. بتقديري، منح تلك الجائزة لغاندي كان منْ شأنه أنْ يكرّس بريطانيا دولة مجرمة بكل المقاييس لكونها مارستْ صنوف القتل ضد شعب أعزل هزمها سلمياً في النهاية. من هنا أتساءل عما إذا كان من الحكمة أن يقبل مانديلا جائزة نوبل للسلام مناصفة مع دوكليرك، هذه (المناصفة) ليست إلا تعبيراً عن مساواة الضحية بالجلاد. عندما يتحول الرجل إلى ايقونة ممنوع عليه أن يرتكب الخطايا، فليتَ مانديلا المقاوم ينتبه اليوم إلى أنّ قبوله بتلك الجائزة المسمومة قد قَبلَ ضمناً المساواة المُطلقة بينَ مَنْ يُمارسُ القتلَ وبينَ منْ يقاومه.
* أستاذ جامعي ـ دمشق

مراجع:

1 Life Magazine: Remembering Martin Luther King Jr. 40 Years Later. Time Inc‚ 2008. Pg 12
2 Umkhonto is Born‚ African National Congress
3 كمحاولة تخريب المركز النووي في كيوبيرغ وزرع ألغام مضادة للاشخاص في شمال وشرق ترانسفال ـ و التي راح ضحيتها قرابة العشرين شخصا بينهم أطفال ـ وهجوم بالقنابل على بريتوريا راح ضحيته سبعة عشر شخصا إضافة إلى استهداف المراكز التجارية والحانات وما نجم عنها من ضحايا.
The Liberation Movements from 1960 to 1990‚ vol. 2‚ chap. 4 du rapport TRC
4 Nelson Mandela›s address to Rally in Cape Town on his Release from Prison‚ 11/2/1990.
5 خلافا لرأي الكاتب الجنوب إفريقي اندريه برينك
Surendra Bhana and Goolam Vahed‚ The Making of a Political Reformer: Gandhi in South Africa‚ 1893–1914. Chapter «Gandhi›s Legacy to South Africa‚» 2005: p. 149
6 The Children Of Gandhi. Time. Retrieved on 21 April 2007
7 Mahatma Gandhi‚ the Missing Laureate . nobelprize.org.