يتردد دائماً خطاب يقول إن «الدولة هي المسؤولة عن حماية لبنان واللبنانيين»! غالباً ما يكون هدف هذا الخطاب تبرير المطالبة بنزع سلاح المقاومة.
إلا أنه في كل مرّة يستقبل فيها الفقراء الجنوبيون هذه «الأكذوبة» بسخرية، لا لأنهم يريدون حمل السلاح، وهو ما يضطرّ إليه أغلبهم «دفاعاً عن الأرض والحياة»، بل لأن الدولة، ورغم مرور عشرات السنين على وجود الكيان الإسرائيلي الغاصب، لم تبادر ولو لمرّة واحدة الى تأمين وسائل، ولو متواضعة، لحماية الذين يتعرضون للاعتداءات الوحشية الإسرائيلية. «الدولة لم تبنِ ملجأً واحداً»، يقول أحد أبناء القرى الحدودية، «فكيف يمكن أن تكون مؤتمنة على أرواحنا وممتلكاتنا؟».
في كل بلدة من بلدات المواجهة الآن مستوصف صغير أو مستوصفان على الأكثر، ليس بإمكان أي منها أن يؤمن إسعاف جريح واحد في حالة حرجة. ولم تفلح حرب تموز الأخيرة في جعل المسؤولين يقدمون على أي خطوة لبناء منظومة قادرة على التعامل مع طوارئ الحرب. فلا بنى تحتية ولا مؤسسية مجهّزة لإسعاف اللبنانيين أو إنذارهم أو إرشادهم أو تقديم العون لهم. مشهد المأساة المتكرر بات عادياً، وهكذا تتعامل معه الدولة: المأساة عادية.
يشير مصدر معني الى أن «مراكز الدفاع المدني الحكومية فقيرة بالمعدات والإمكانات البشرية والتقنية، فهي تعتمد على مساعدات البلديات فقط، ففي أكثر من مركز، هناك سيارة واحدة ومسعف واحد هو سائق السيارة نفسه في حالات كثيرة». إلا أن مراكز الصليب الأحمر اللبناني أثبتت جدارتها وقدراتها في حرب تموز 2006، ويبدو أن حزب الله قرّر العمل على سد ثغرة «الدولة»، فأقامت الهيئة الصحية الإسلامية في مدينة بنت جبيل أخيراً مناورة «الولاية» الكبرى على عمليات الإنقاذ والإسعاف وإطفاء الحرائق والهبوط بواسطة الحبال. وتميزت فرق الدفاع المدني في الهيئة الصحية الإسلامية باستخدام تقنيات متطورة، مثل المعدات الخاصة لقص المعادن، ومعدات الدفع الهوائي لرفع الأوزان الثقيلة، وإنزال الجرحى من أماكن مرتفعة بواسطة حمالات طبية معلقة بالحبال، كما لفتت مشاركة فرقة من النساء في عمليات الإطفاء والإسعاف. واللافت أن بلديات بنت جبيل ومرجعيون بدأت العمل على خلق خلايا بشرية ناشطة ومتدرّبة على إدارة الكوارث وشراء الآلات المخصّصة لذلك، رغم كلفتها المالية الباهظة نسبة الى موارد البلديات، والتي «تزيد على 50 ألف دولار أميركي للآلة الواحدة»، بحسب الناشط زياد غنوي (حولا).
ويخضع العديد من شبّان المنطقة لدورات «إدارة الكوارث، وإدارة النزوح ومشكلاته، وإدارة الحالات الطارئة المتعلقة بالإسعافات الأولية، إضافة الى إدارة عمليات الإنقاذ»، بحسب المدرّب المتخصّص في إدارة الكوارث أحمد كحيل، الذي أشار الى أنه «تم عرض مشكلات افتراضية تدرَّب المشاركون على معالجتها بالاستعانة بأدوات وآلات تم تجهيزها بشكل مسبق، إضافة الى تعليمهم كيفية وضع الخطط بالتعاون مع مدرّبين من الصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني والهيئة الصحية الإسلامية وجمعية دايز وجمعية العمل البلدي». وكشف مدير اتحاد بلديات بنت جبيل أسامة مشيمش عن «نية الاتحاد إعداد فريق متخصّص وجاهز لإدارة الكوارث في منطقة الاتحاد، سيتم تجهيزه بكل الآلات والمعدات المطلوبة لإدارة الكوارث، وسيتعاون مع فرق عمل سيتم إنشاؤها في كل البلديات التابعة للاتحاد». كما عمد اتحاد بلديات جبل عامل الى «تحديد فئات الدم لمعظم المقيمين في المنطقة، وتحديد عدد المصابين بالأمراض المزمنة في كل بلدة، ومن ثم تأمين احتياط من الأدوية اللازمة لهم. وأقام دورات تدريبية لإطفاء الحرائق والأنقاض واستطاع منع التعدي على الأحراج ومكافحة الحرائق المعتادة التي كانت تحصل سابقاً». وفي جميع الأحوال يؤكد الأهالي «غياب الدولة بشكل كامل عن أي أعمال تساهم في دعم صمود الأهالي وحماية أرواحهم عند وقوع حرب جديدة، رغم أن عدد سكان المنطقة الحدودية وحدها يزيد على 250 ألف نسمة».
يقلل بعض العسكريين من أهمية بناء الملاجئ العمومية. يقولون إنها «لم تعد حلاً لحماية المدنيين نظراً إلى الأسلحة التدميرية الفتاكة التي بات العدو يستخدمها»، يذكّرون بأن «المقاومة الفلسطينية بنت في السبعينيات عدداً من الملاجئ في القرى والبلدات المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلّة، وهي لا تزال موجودة حتى الآن، وتُستخدم لأغراض أخرى غير حماية المدنيين. كما أن حزب الله شيّد عدداً من الملاجئ في بعض القرى، لكن الأهالي لم يستخدموها في حرب تموز نظراً إلى خطورتها، في ظل الأسلحة المدمّرة التي باتت تستخدمها إسرائيل في حروبها».
لكنّ خبيراً عسكرياً أكد أن «بناء الملاجئ الصغيرة في أماكن مختارة ويمكن الوصول إليها بسهولة وسرعة، باستطاعتها أن تؤمن الحدّ الأدنى من الحماية، ولا سيما إذا تم تجهيزها بالمؤونة ومستلزمات الإقامة، وربطها بممرات نحو المنازل المحيطة لإدارة الحركة». لم تعمد الدولة أو مؤسساتها الى وضع خطّة لبناء مثل هذه الشبكات من الملاجئ في المدن والقرى، كما لم تُدخل تعديلات على التصاميم التوجيهية وقوانين البناء تلحظ وجود مثل هذه الشبكات.
قوّات اليونيفل لم تسع أيضاً منذ وجودها إلى أي خطّة لمساندة المدنيين عند وقوع الحرب، رغم أنها، بحسب مصدر أمني، «وضعت خطة حمائية لجنودها، فشيّد الجنود الفرنسيون الملاجئ المحصنة داخل مقارهم وجهزوها بآلات وبرادات للتموين تكفيهم لأسابيع طويلة»، ما يعني أن «جنود قوات اليونيفيل حصّنوا أنفسهم تحسباً لأي حرب طارئة، ولم يبالوا أيضاً بالمدنيين».
واقع المستشفيات الجنوبية في القرى الأمامية يبدو أنه أحسن، بعد افتتاح مستشفيي بنت جبيل وتبنين الحكوميين، وهما يضافان الى مستشفيات صلاح غندور (التابع للهيئة الصحية الإسلامية) وميس الجبل ومرجعيون الحكوميين، اللذين يعملان قبل حرب تموز الماضية. وكان مستشفيا بنت جبيل الحكومي وصلاح غندور في بنت جبيل قد استوعبا عشرات الجرحى، دفعة واحدة، في عام 2011، عندما اعتدى جنود الاحتلال على المدنيين في يوم العودة في مارون الرّاس. وهذان المستشفيان مجهزان بنحو 166 سريراً، وقادران على استيعاب أكثر من هذا العدد في الحالات الطارئة. لكن منطقة بنت جبيل وحدها في حالة الحرب تحتاج الى أكثر من 300 سرير، بحسب المصادر الطبية.
يتذكّر محمد (اسم مستعار) عمته العجوز التي بقيت وحيدة في أيام حرب تموز، وأغمي عليها لأيام بسبب القصف، وعندما تمكن من نقلها الى مستشفى صلاح غندور في بنت جبيل رفضوا استقبالها، كون المستشفى على حد قولهم متخماً بالمصابين الشباب، ما اضطرّه الى نقلها الى أحد مستشفيات صيدا، فتوفيت قبل أن يتمكن من معالجتها.