قبل الحديث عن الضربة الأميركية لسوريا، كانت أوضاع الاقتصاد سيئة إلى درجة الانكماش. لم يصل الأمر إلى مرحلة الكارثة، إلا أنه بلغ عتبتها. القطاعات الاقتصادية تعيش مرحلة «هدوء ما قبل العاصفة». عين المؤسسات على طبيعة الضربة الأميركية ونوعها ومدّتها. تحسب هذه القطاعات نوع الردّ وإمكان انزلاق المنطقة من ضربة محدودة المكان والزمان إلى ساحة معركة كبرى لا نهاية لها إلا بالتسوية أو الحسم. اقتصاد لبنان ما قبل الضربة لن يكون مثل ما بعدها.
الحديث الوحيد على لسان أصحاب العمل والرساميل في هذه الأيام هو حديث الحرب. اعتادت هذه الشريحة أن تتأقلم بسرعة مع الأوضاع، وحرصت على قراءة الأوضاع السياسية والأمنية في لبنان والمنطقة بصورة متواصلة، في محاولة منها لاستباق واستغلال أي خطوة هنا أو هناك. هكذا هو الوضع مع الحرب الدائرة في سوريا. الحدود البريّة بين البلدين كانت نقطة مثالية لاستغلال توقف المصانع السورية عن منافسة المصانع اللبنانية. أيضاً مثّلت هذه الحدود نقطة وسطية لعبور الأفراد والمال والسلاح، ولأعمال الإغاثة. خلقت هذه الحرب أعمالاً جديدة بين لبنان وسوريا. ما لم يكن متوقعاً هو أن تصل الحرب في سوريا إلى مرحلة التدخّل الأميركي. كان هناك شبه اقتناع سائد بأن هناك دولاً كبرى تقف وراء النظام في سوريا، وبالتالي فإن مثل هذا التدخّل كان مستبعداً قبل إنهاك سوريا واستنزاف مواردها بصورة كبيرة. لكن «الأسوأ» انتقل من كونه احتمالاً مستبعداً إلى احتمال شبه أكيد.
الأيام القليلة المقبلة تحسم كل هذا الجدال. أما قطاعات الاقتصاد فهي تقف اليوم وسط التصريحات والتهويلات والتهديدات ترسم مشهداً مختلفاً. يروي أحد كبار المصرفيين أن «المفاوضات الأميركية ــ الروسية حول الضربة الأميركية في سوريا ستخفف كثيراً من احتمال تدهور المنطقة وانزلاقها عسكرياً في اتجاه توسيع رقعة الحرب». ويكرّر هذا المصرفي ما قاله رئيس جمعية مصارف لبنان فرنسوا باسيل قبل يومين لـ«الأخبار» عندما أشار إلى أن الأموال «لن تهرب من لبنان، لأنه لا مكان لديها تذهب إليه في الخارج». وفي الواقع هناك إجماع بين المصرفيين على أن الودائع في المصارف اللبنانية لا يمكنها أن تهرب إلى أي من دول أوروبا، خوفاً من أن تصاب في أي لحظة بمرض «قبرصي» جديد، ولا يمكنها أن تهرب إلى أميركا بسبب التعقيدات التي يضعها الأميركيون على عمليات التحويل والرقابة الشديدة في هذه الأيام، وبسبب تدني الفوائد هناك إلى مستوى قريب من الصفر. هناك بعض الودائع العربية في المصارف اللبنانية، وهي لن تهرب من مصارف لبنان حتى في أسوأ ظرف، لأنها هربت أصلاً من أوروبا وأميركا وأفريقيا ومن الخليج لتتغطى هنا بـ«السرية المصرفية». وإذا كان هناك مودعون مغتربون، فهم يعملون حتماً على نقل أموالهم إلى لبنان دورياً ويحتفظون في دول إقامتهم ببعض الحسابات الصغيرة.
وما يعزّز هذا المنحى أن المعلومات الصادرة عن مصرف لبنان تجزم بأنه لم يسجّل أي طلب إضافي على الدولار غير الطلب اليومي المعتاد في مثل هذه الأوقات من السنة، مع هامش زيادة بسيط لا يتجاوز 2%. والمعروف أن معدل الطلب العادي على الدولار يومياً يصل إلى 70 مليون دولار، وبالتالي فإن الهامش يبلغ 1.4 مليون دولار فقط، وهو رقم لا وزن له مع وجود أكثر من 36.4 مليار دولار من الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان.
سيخرج كثيرون ليحتفوا بقوّة المصارف ومتانتها وقدرة القيّمين عليها، فيما هي طبيعة الحال أن الوضع سيكون مرّة جديدة لمصلحتنا كما كان في 2008 وما بعدها. الأموال المحلية لن يكون لديها مجالات للتوظيف في اقتصاد الحرب، بل ستذهب إلى الانخراط أكثر في تمويل حاجات الدولة.
إذاً، أين المخاطر والمخاوف؟ الإجابة تكمن لدى المصدّرين، لأن خطوط التصدير اللبنانية تمرّ عبر سوريا في غالبيتها. وبحسب نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش، فإن غالبية الصناعيين باتوا يصدّرون بضائعهم بحراً، لكن أي ضربة لسوريا مهما كان شكلها ستقطع خطوط التصدير البري بنحو شبه نهائي، وسيتوقف التصدير إلى سوريا التي تستورد من لبنان حاجاتها، أي إن المنتجين اللبنانيين سيفقدون السوق السورية.
في رأي وزير المال السابق جورج قرم، فإن «الأمر متوقف على مدى توسّع القتال في سوريا. ففي حال كان الأمر محصوراً، يمكن اقتصاد لبنان امتصاص التداعيات والتأثيرات. أما في حالة حرب واسعة، فإن النتائج مختلفة جداً، ولا يمكن التكهن بها. لكن حتى الآن لا يزال التهويل بالوضع الاقتصادي المحلي جزءاً من المعركة السياسية التي تخاض في لبنان».
قراءة الرئيس السابق لجمعية الصناعيين جاك صرّاف تشير إلى أنه «حتى اليوم لا يزال لبنان مستبعداً من الحرب». لكن تأثيرات أي ضربة أميركية قد تؤدي إلى إغلاق المطار أو ارتفاع كلفة الشحن وارتفاع كلفة التأمين على البضائع... «نحن أصلاً نعيش مرحلة الجمود بسبب الوضع السوري. فبعد تفجيري طرابلس، سجّلت الأسواق والمولات حركة جمود قوية تلتها رسائل نصية وشائعات عن تفجيرات في أماكن أخرى، لأن هناك من أراد إثارة الذعر بين اللبنانيين».
كيف نصرف كل هذه التوقعات والتقديرات؟ الأكيد أن الحرب سترسم مشهداً اقتصادياً جديداً في لبنان والمنطقة. لا أحد يمكنه الإحاطة بهذا المشهد. فبحسب رئيس جمعية الاقتصاديين اللبنانيين جاد شعبان، إن المشهد كلّه يرتبط بما يحصل في سوريا. ينطلق شعبان من كون الحرب الدائرة في سوريا قد مضى عليها أكثر من سنتين. هذه الفترة وأحداثها كانت كافية للتأثير في الاقتصاد اللبناني على أساس أن «الحرب في سوريا هي حرب أهلية لا أفق واضحاً للحلّ فيها». تأسيساً على هذا الأمر، فإن الاقتصاد لن يكون في وضع أسوأ مما هو عليه اليوم، رغم أن درجة السوء ستكون مرتبطة أكثر بطبيعة الضربة الأميركية ومدّتها ونوعها. حتى الآن هناك فرضية «التدخّل الموضعي». أما في حال «أدّت الضربة الأميركية إلى فرض واقع جديد ينقل الأزمة السورية إلى واقع شبيه بالأزمة الصومالية، فقد نشهد انهيار ما تبقى من الدولة السورية، وربما نشهد إغلاقاً للحدود مع لبنان، ونزوحاً إضافياً من السوريين في اتجاه الأراضي اللبنانية... لكن يبقى مصير الوضع مربوطاً بمسار الحرب وإذا كانت ستذهب نحو الحسم أو ستستعر بصورة أسوأ وبكيفية تفاعل لبنان مع هذا الوضع».
ويعتقد شعبان أن السوق تتفاعل على قاعدة «رأس المال جبان كما يعرف عنه دوماً. فقد نشهد هروب أموال من المنطقة وتوظيفها في الذهب، وربما سنشهد زيادة في تهريب الأموال عبر الحدود ونشاطاً أكبر في السوق السوداء.