أيّ عالم؟ عندما تحكيني عن العالم، مَن تقصد؟ أميركا وكندا وأوستراليا والبرازيل وأخواتها أم العالم الآسيوي الذي بدأ يثأر لنفسه أم العالم الأفريقي المقتول منذ قرون ويجرجر انقتاله وهو يرقص على أنغامه لا نكاية بالغرب بل ممارسةً لمزاجه وفرحة الوجود التي تسكنه ويجسّدها أكثر من جميع الشعوب.
عندما تقول «العالم» أوّل ما يتبادر إلى ذهني شارع المنزل، ساحة ساسين، مطعم الحلبي في انطلياس، ومكتبة أنطوان. منذ سنة لم أعد أفكّر في سوريا. اختار السوريّون أن يتقاتلوا حتّى يشبعوا. هذا، في النهاية، كان نوع حريّتهم.
وطبعاً لا أفكّر في معادلات لبنانيّة عاجزة أمام دولة كإيران من هنا ودولة كالسعوديّة من هناك. أعتقد أنّ لبنان منذ الطائف واستيلاء سوريا على كلّ ماكيناته بدأ يزول، ومع الهراوي ازداد اضمحلالاً، ومع لحود انتهى.
ماذا يتبقّى؟ إذا تجرّأ رئيس الدولة ميشال سليمان على الإشارة إلى سيادة لبنان واستقلاله تقوم قيامة العونيّين ومَن وراءهم. بالنسبة إليهم وحده (إذا أرادوا مسايرة «حزب الله») رئيس المجلس رئيس، أمّا رئيس الجمهوريّة فأسيرٌ بين الأسرى.
لبنان الذي نعرفه زال ولا عودة له إلّا مع الذين لن يعودوا.
والعالم، حين تحدّثني عن العالم، هو التاكسي نهاراً إلى «الأخبار» وتاكسي ليلاً إلى التلفزيون في البيت يسلّيني مرّات ويقتلني دوماً فيما أنا أتوهّم أنّي أقتل الوقت.

■ ■ ■


هل هناك مَن يهتمّ في لبنان لـ«نفسيّة» أحد؟ لبكاء ولد بيّاع علكة على رصيف منتصف الليل لأنّ والده سيضربه ويبرّحه ضرباً بسبب عدم كسبه المنتظر منه؟ الزوجة التي انتحرت بإلقاء نفسها من العالي مَن يحقّق في أمرها؟ الشرطة؟ وما حدود معرفة الشرطي ورئيسه بأحوال النفس؟ والقتيلات الأخريات لماذا نُسين بعد أيّام؟ الجريمة في لبنان تتنزّه ومعالجو عواقبها على دين وزير الداخليّة مصرّف الأعمال: الأمن ممسوك. هل ممسوكة أيضاً أخلاق السائقين الذين يقتلون المارّة كأنّهم برغش؟
الجريمة، أحد أكبر مصادر الإلهام والتنقيب لدى عظماء الأدب من الإغريق إلى شكسبير إلى دوستيوفسكي، أكثر ما يهمّنا في لبنان أن نسارع إلى طيّ صفحتها. تمنّيتُ أن أطالع في نقل الصحافيّين لوقائع جريمة ثم التحقيق فيها، تمنّيتُ أن أطالع اجتهاداً لصحافي ينبّه المحقّقين إلى تفاصيل فاتتهم. في الماضي كان صحافيّونا يكشفون الأسرار إلى حدّ لن يصدّقه قارئ اليوم.
أيّ عالم يا عزيزي بين الأشرفيّة و«الأخبار»؟ لا، ليس مسافة الطريق، بل مَقْعدي في السيّارة.


■ ■ ■


قلت يا عزيزي ولم أقل يا صديقي. انتبهتُ أنّي مرّات أطلق صفة صديق على مَن لا يريد أن يكون صديقي. هذه حالة من حالات الغرور، فضلاً عن كونها عادة كتابيّة. في الواقع أنّي أسعى إلى توظيف خادمة لأجد في البيت مَن يعينني على فنجان القهوة والردّ على التلفون وما إليهما، والأهمّ أنْ أجد مَن أخاطبه ويجاوبني فلا نبقى أنا والحيطان يتربّص واحدنا بالآخر.
كنت في ما مضى سَكوتاً وغدوتُ ثرثاراً. بالمقلوب. في آخرته يجب أن ينغلق الكائن، لا لأنّه لم يعد لديه ما يقول، بل لأنّ أحداً لن يعير كلامه أيّ اهتمام. ربّما انتحر همنغواي لأنّه اصطدم بهذا الواقع. كنت تجذب وأضحيت تُضجّر. عوّض عن الثرثرة الشفهيّة بالثرثرة الكتابيّة. بدل أن تدفع لي «الأخبار» راتباً يجب أن أدفع لها. وكما يقول غراهام غرين: «في البداية تعقد علاقات كثيرة، وفي النهاية تصبح كجدّك مخلصاً لامرأةٍ واحدة».

■ ■ ■


لم أستوعب قدرة جوزف سماحة على كتابة سيل المقالات التي كتبها، بين «السفير» و«اليوم السابع» و«الحياة» و«الأخبار». كنتُ أقول له: «أنت شيطانُ التأويل». أوتي براعة الترافع عن قضايا يائسة بمطالعات يبهرك ذكاؤها لا اقتناعك الوجداني بها. كان يضحك. كنت أحرّضه، لسذاجتي، على الخروج والتمتّع بمباهج الحياة، فيجيبني أنّه لا «يعوّف» شيئاً، من الرياضة إلى الكحول إلى النساء. فأسأله: وأين تجد الوقت للباقي، فيبتسم قائلاً: «أيّ باقي؟ الباقي حكي».
كان جوزف سماحة غائصاً في العالم الخارجي. النموذج النقيض لنموذجي. وكان يعتبر أنّ ما يكتبه اليوم ينتهي اليوم، فهذه تعليقات يوميّة من عن سطح المياه لا كتابات وجدانيّة أو أدبيّة. وكان يزعم أنّه لا يعرف أن يكتب وجدانيّاً ولا أدبيّاً.
لم يكن جوزف سماحة صديقاً. كان اكتشافاً. وجدتُ فيه نموذجاً للشخص الذي يقطع نَفَسه ليسمع أنفاس «العالم».

■ ■ ■


خواطر لا منارة لها. حين تغيب الحميميّات وعواصف القلب لا يبقى غير التيه. أفاجأ كلّ يوم أنّي ما أزال حيّاً. ويفاجئني القلم حين أحمله أنّه يمشي وحده. يبدو أنّ الكتابة ليست موهبة بقدر ما هي نشاط ذهني لا بدّ أن يُمارس وإلّا مارس نفسه أوتوماتيكيّاً.
باستثناء ابنتي وابني لا أحد يقول لي شيئاً عن كتاباتي، فأشعر كعجائز المقهى بأنّي دخيل. والحقيقة أنّي عجوز ودخيل، ولم أعد أرتاد المقاهي.

■ ■ ■


«العالم» أضحت لفظة غريبة. كانت دوماً كذلك ولكن ليس إلى حدّ استغرابي أنّ سوريا جزء من العالم وكذلك العراق ومصر وتونس وليبيا واليمن. أيّ عالم؟ عالم يتفرّج علينا نتذابح ونتفكّك ويحسب لنا أمين عام أممه المتّحدة عدد القتلى السوريّين حريصاً على التقليل منهم إرضاءً لإنسانيّته المسكينة؟ أيّ عالم؟ طبعاً لستُ من هذا العالم. وأصحُّ ما في هذه المعادلة أنّ العالم غير مكترث لي ولا لملايين القتلى. كوكب السبعة مليارات ينظّف نفسه من الزوائد ليظلّ بكراً طازجاً شارباً كأس البشر من دمائهم. وعلامَ الاستغراب؟ مَن اكترث لملايين القتلى في حربي فيتنام الفرنسيّة والأميركيّة؟ مَن اكترث لقتلى الجزائر؟ ولقتلى جنوب شرق آسيا؟ ولمجازر التوتسي والهوتو؟ بل مَن يكترث لضحايا السير أو التلوّث في العالم بأسره؟

■ ■ ■


ختاماً:
قرأتُ في «ملحق النهار» مقالاً لراتب شعبو تحت عنوان: «بماذا يفكّر القنّاص؟».
«كان يمكن كلمة تقولها الضحيّة أن تعدّل في المصير الذي ينتظرها لو كانت المسافة قريبة. وكان يمكن قرب المسافة أن يجعل القنّاص يحتسب لصوت ألم الضحيّة واستغاثتها، فيحجم قليلاً. غير أنّ المسافة بعيدة والسلاح قادر على طيّ هذه المسافة التي لا تستطيع الأذن ولا العين أن يطوياها».
طوال حروب لبنان بقنّاصيها القذرين لم أقرأ شيئاً عن هذا القاتل المجهول. رغم أنّه غالباً ما كان سيّد الموقف على كل الجبهات. لا أعرف الأستاذ راتب شعبو، لكنّي أشكره على ملء هذا الفراغ. وليته يتوسّع أكثر. القنّاصون بين لبنان وسوريا باتوا يؤلّفون طائفةً كاملة على حدة. طائفة من صيّادي الأبرياء والفقراء ومحتاجي الخروج من بيوتهم للارتزاق أو شراء خبز أو زيارة طبيب. مجرّد التفكير في شخصيّة القنّاص ترعب. بعد نهاية الحرب في لبنان عدنا إلى بعض مألوفاتنا، ومنها المقاهي والمطاعم. فجأةً تنبّهت إلى أنّ هذا الجمع الضاحك قد يكون بينه قنّاص. ما أدراني أنّ الذي سلّمتُ عليه بالأمس لم يكن قنّاصاً؟ وهكذا مرّت فترة صرت أتخيّل كلّ مجهول يُراد لي التعرّف عليه قنّاصاً. إلى أن قال لي أحد مقاتلي الحرب الأهليّة: «لا تتوهّم. نحن نعرف عنهم. معظم قنّاصي الحرب الأهليّة كانوا مرتزقة أجانب».
ارتحتُ زمناً. لكنّي حيال ما أراه في سوريا وحيال ما أراه ممّا هو أفظع من الحرب في سلوك اللبنانيّين ووحشيّة قيادتهم للسيّارات وسفالة شراهتهم للمال والمظاهر وانعدام مشاعر الرأفة والشفقة لديهم أعادني إلى صوري السابقة عن القنّاص.
بلى، القنّاص لبناني كما هو التاجر الذي يسرقني لبناني والمحامي الذي يتخلّى عنّي في ضائقتي لإرضاء صاحب سلطة، لبناني. قنّاصو الأمس باتوا حكّام اليوم. مجتمعٌ بمعظمه إمّا فاسد وإمّا متطلّع للفساد.





الأدب المحجوب
هل مات العرب جميعاً؟
كلّ صيف تُخصّص مجلّة «الآداب الفرنسيّة» الشهريّة ملفّاً لأبرز الكتّاب الأجانب ذلك العام. تكتب عنهم وتجري وإيّاهم مقابلات.
ولا مرّة صادفتُ اسماً عربيّاً. (لأكون صادقاً ربّما ورد ذكر أدونيس في أعداد سابقة، ولأكون أكثر صدقاً أفردَتْ المجلّة عن الأدب اللبناني والسوري الحديث ملفّاً دسماً منذ... سنين).
لا طمعاً بمديح المجلّة، فهي أوّلاً من أضعف المجلّات، وهي ثانياً لا تثير فيك أيّة شهيّة لأن تتحدّث عنك.
المشكلة في اللغة العربية. مَن هم أرنالدور أندردايسون وإنريك فيلا _ ماتاس وإليس منرور ولوكاسيسشك وأورهان باموك ومو يان وزادي سميث وريتشارد باورز وليديا جورج وجون إيرفينغ حتّى تخصّص لهم المجلّة ملفّاً احتلّ كلّ صفاتها تحت عنوان: «عشرة أصوات كبيرة من الأدب الأجنبي»؟ هل قرأت المجلّة مؤلّفات علاء الأسواني وهدى بركات؟ وربيع جابر وعبّاس بيضون؟ ورشيد الضعيف وعشرة على الأقل من أدباء سوريا والعراق؟
كيف يكتشفنا العالم والعالم نفسه حجّبنا؟ لقد احتلّت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا والسنغال وغيرها من ديار أفريقيا، وحاولت أن تعوّض عليها بعد الجلاء ببعض إعادة الاعتبار. أمّا سوريا ولبنان، وقد أعملت في سوريا تشطيباً وإرهاقاً، فأدباؤها فيهما هم جورج شحادة وفينوس خوري غاتا وحالياً أمين معلوف، ولا فضل ولا منّة، فقد فرض هؤلاء وسواهم من اللبنانيّين أنفسهم على باريس بفضل كفاياتهم وعدم وجود أمثالهم في فرنسا. ومع هذا لم يعد، بعد وفاة جان لوي بارو، أحد يكترث لمسرح شحادة، علماً، خصوصاً، بأنّ هؤلاء ما كانوا ليُذْكَروا في فرنسا لولا كتابتهم بالفرنسيّة.
ثم لماذا الرواية؟ هل أصبحت الرواية مختصر الأدب؟ في الآداب القديمة منذ هوميروس لم يكن ثمّة رواية. كان هناك سرد أحداث ولكنْ في طيّات المسرح كما عند شكسبير أو الشعر كما عند راسين وكورناي ثم فكتور هوغو. الرواية مُنْتَج صناعي _ ذاتي غالباً ما تحكي فيه القصّة حوادث الكاتب.
والعرب، لنكون منصفين، لم يجلّوا في الرواية. باستثناء نجيب محفوظ، لأنّه خالط الأعراق. وهذا سرّ عالميّته لا عبقريّته الروائيّة وحدها. العرب كتّاب مقال أكثر من أيّ شيء آخر، وهناك في ميدان المقالات ما تصفَرُّ وجوه الرواية أمامه. كتّاب المقال ما عادوا يكتبون النكتة والمديح للسلطة، ولا عادوا ممتهني ابتزاز، ولا عاد بعضهم يكتفي بثقافته الصحافيّة، بل أصبح بينهم مَن لا يكاد يضاهيه كاتب في المعرفة والإبداع.
المشكلة، مرّة أخرى، في لغتنا التي يعتبرها الغرب، في عنصريّته، لغة ميتة. هل العبريّة لغة حيّة؟ والبنغاليّة والتشيكيّة والسلوفاكيّة والصينيّة والإيرلنديّة والتركيّة لغات حيّة؟ في لغتنا جواهر ولا تنتظر غير العدل في التعامل.
... وملك فيصل جديد يحجب النفط عن الغرب حتّى يرفع التمييز ضدّ العرب والتعتيم على الأدب العربي.



تملأ المكان
سرّ المرأة الجميلة هو في سعة حضورها: بين الإغراء وحمل الأعباء، بين الغريبة والأليفة. سرّ أبي الهول الذي افترضوه فيها هو غطاء لأيّ شيء يريده خيالك.
إذا حضرتْ حسناء إلى مكان يعجّ بالرجال حصل ما يشبه الظاهرة الجيولوجيّة. يمتلئ المكان فجأةً مع أنّه كان ممتلئاً، لكنّه كان ممتلئاً بعدد والآن أصبح فيه إنسان غريب.
المرأةُ التي تملأ المكان إنسانيّاً وأنثويّاً فنّانة. الفنّانة الفنّانة (المطربة، الممثّلة، الراقصة، الشاعرة) التي تجمع صفة مهنتها وموهبة ملء المكان كائن لا تُفَكُّ مغاليقه، وهو على شيء من اللّا بَشَر.