لا يحتاج الزائر الى لافتة تشير إلى انه وصل الى بلدة شكا في قضاء البترون. دواخين مصانع الاسمنت والكلس والجفصين والترابة البيضاء والاترنيت، تشكل علامة فارقة في هذه المدينة التي يشكل الحجر الجيري والصلصال نعمتها ونقمتها. عند الخط الساحلي القريب من البحر تقع شركة الترابة الوطنية ــ السبع. تحتفل الشركة هذا العام بمناسبة مرور ستين عاماً على تأسيسها.

أكثر من ٧٥٠ موظفاً يعملون على مدار الساعة في هذه الشركة التي تنتج قرابة ٧٥٠٠ طن من الاسمنت يومياً. تمتد عقارات الشركة على مساحات شاسعة من بلدات شكا وبرغون وبدبهون وزكرون وكفرحزير والمجدل. ومن المقالع الممتدة على مساحة تصل الى ثلاث ملايين متر مربع الى مصانع الشركة، رحلة طويلة تسلكها المادة الخام عبر اسلاك اوتوماتيكية لتدخل افران تصل حرارتها الى اكثر من ٢٠٠٠ درجة حيث تتحول الى ما يعرف بمادة الكلنكر (الاسمنت الخام) ليضاف اليها عدد من المواد المحسنة من أكاسيد الحديد والبوكسيت والرمل ثم تطحن وتصبح جاهزة للتعبئة.
ينتج من صناعة الاسمنت، التي تعتبر الصناعة الثقيلة الوحيدة في لبنان، العديد من اسباب التلوث التي تعاني منها بلدة شكا والجوار.
يقدم مدير شركة الترابة الوطنية روجيه حداد كشف حساب عن المؤشرات البيئية للشركة والتي تخضع لتدقيق سنوي من قبل شركة VDZ الالمانية، وهي شركة متخصصة بالتدقيق البيئي لصناعة الاسمنت.
يبدو واضحاً من تلك الارقام ان الشركة حققت تقدماً ملحوظاً في خفض نسبة انبعاثاتها من الغبار في الهواء الطلق، اثناء عملية نقل المواد الخام، ومن الغبار المتصاعد من مداخن الشركة بالمقارنة مع الارقام المسجلة في العام ٢٠٠٥. «هذا لا يعني اننا راضون عن نسبة هذه الانبعاثات فهناك العديد من الثغر التي نسعى الى تحسينها، لأن هذه الصناعة قائمة اساساً على طحن التربة ولذلك لا يمكن تفادي انبعاث الغبار اثناء مراحل النقل والتصنيع» يقول حداد.
مراجعة لوثائق الشركة حول نسبة انبعاثات اكاسيد النيتروجين وثاني اوكسيد الكبريت وثاني اوكسيد الكربون، تقدم ايضاً ارقام تفيد ان مستوى انبعاثات الشركة هي اقل من المعدل المسموح به وفق المعايير التي وضعتها وزارة البيئة اللبنانية.
الفضيحة المدوية أن معايير وزارة البيئة لم يتم مراجعتها منذ العام ١٩٩٧، وفي حال قررت شركات الاسمنت الالتزام بالمواصفات والمقاييس اللبنانية، فيمكن ان ينتج مدخن الشركة ١٥٠ ملغراماً من الغبار في حال كانت الافران جديدة، وصولاً الى ٢٠٠ ملغرام في حال كانت الافران قديمة.
معايير رقابة الشركة الالمانية تشمل ايضاً عامل السلامة والامان، من تدريب العاملين على طريقة التدخل في حال حدوث اعطال فنية، وصولاً الى معايير الصيانة الدورية وطريقة التصنيع والتخزين. هكذا انخفضت حوادث العمل في الشركة من ٦٨ حادثاً في العام ٢٠٠٥ الى ١٤ حادثاً في العام ٢٠١١. ويلفت حداد الى ان الشركة تعتمد معايير متشددة في توثيق حوادث العمل بما فيه التعطيل ليوم واحد لان الهدف هو عدم تكرار الحوادث، في حين ان المعيار الدولي يسجل حوادث العمل التي تشمل التعطيل لمدة تزيد على ثلاثة ايام. كما تقوم الشركة بفحص سنوي لجميع العمال من ضمنه صور شعاعية للصدر، ليتبين وفق كشوفاتها أن اياً من عمالها لا يعاني من تليف الشعيبات التنفسية والرئة، وهو المرض الاكثر شيوعاً في صناعة الاسمنت.
تقول الشركة انها تتلقى شكاوى المواطنين حول المشاكل الناتجة من اعمالها، وتصل الى حدود ١٣ شكوى سنوياً. واحدة من هذه الشكاوى يقول صاحبها ان الشركة لوثت «الشاليه» الذي يملكه على شاطئ البحر اثناء نقل مادة البتروكوك من مرفأ الشركة الى المصنع. اثبت التحقيق في الحادث ان تسرب البتروكوك ناتج من ثغرة تصنيعية في عملية النقل تمت معالجتها، كما قامت الشركة لاحقاً بتنظيف محيط الشاليه وازالة الضرر.
لا ينفي حداد ان هناك الكثير من الجوانب السلبية التي تحاول شركة الترابة الوطنية تحسينها، لكنها مقيدة بسبب تعقيدات تصنيف الاراضي في المنطقة. واحدة من المشاكل هي المساحات المفتوحة لتخزين الكلنكر في العقارات الواقعة لجهة البحر، حيث يرقد جبل من الاسمنت غير المطحون موزعاً الغبار في الاجواء مع هبوب نسيم البحر.
سعت الشركة الى تعديل مرسوم تصنيف الاراضي التي تملكها على شاطئ البحر من سياحية الى صناعية، لكي تتمكن من انشاء هنغارات تحجب الغبار وتساعد في تخزين الانتاج بطريقة سليمة. مشكلة التخزين الامن تشمل ايضاً مادة البتروكوك المستخدمة الافران. يعرض حداد نسخ عن خرائط صممتها الشركة لانشاء هنغار لتخزين البتروكوك، لكن هذا الهنغار الذي رصد له ميزانية تفوق مليوني دولار يواجه اعتراضاً من المجلس البلدي لشكا الذي يطالب بنقله الى عقار آخر. ولا تزال الدعوى التي رفعتها البلدية عالقة في المحاكم اللبنانية منذ اكثر من عشرة سنوات، بعد ان فازت الشركة في مرحلة الاستئناف، فواجهتها البلدية بتمييز لا يزال عالقاً في محكمة بيروت. المفارقة ــ اللغز أن البلدية التي تعارض تغطية مخزون البتركوك يرأسها فرج الله كفوري الذي يستورد عبر سفنه مادة البتروكوك لصالح شركات الاسمنت، الامر الذي يؤكد ازدواجية المصالح والمعايير.
قليلاً ما تجد نشاطاً ثقافياً او رياضياً في شكا، إلا وحاز على رعاية شركة الترابة الوطنية. مخيم صيفي مجاني يتجاوز عدد المشاركين فيه ٣٠٠ طفل وطفلة، مشروع لمراقبة السلاحف البحرية، وصولاً الى تمويل تركيب مولدات كهرباء باسعار تفضيلية مخفضة لصالح البلدية. المبادرة الاهم وفق وجهة نظر الشركة هي تخصيص مساحة ٧٠ الف متر من عقاراتها غير المستثمرة، في بلدة بدبهون ــ قضاء الكورة لاقامة «حزام اخضر» يفصل بين مقالع الشركة والبلدات المحيطة. ويشمل المشروع زراعة أكثر من 1300 شجرة و3600 نبتة بإشراف شركة Ecomed الفرنسية، المتخصصة بدراسة التنوع البيولوجي وتأهيل مقالع الاسمنت. وتسعى الشركة من خلال هذه المبادرة الى ضمان ان يتم تحويل استثمار باقي الاراضي التي تملكها كمنطقة مقالع.
ماذا عن تأهيل العقارات المستثمرة ؟ تقول الشركة ان تأهيل المقالع يدخل ضمن خططها، والى ان يحين ذلك تنخفض جبال شكا تدريجياً الى مستوى البحر، ومن تربتها البيضاء ترتفع ابراج الباطون في مدننا وقرانا.



البيئة والتصميم التوجيهي

تسعى شركة الترابة الوطنية الى اعادة تصنيف عقاراتها المستثمرة كمقلع في بلدات زكرون وبرغون وبدهون. ويتبين من تقرير «التنظيم المدني» ان المخطط التوجيهي لهذه البلدات قد لحظ عدة تصنيفات (زراعية، وديان واحراج، منطقة حماية) دون لحظ اي منطقة ارتفاقية للمقالع والكسارات. وفي شباط ٢٠١٢ رفع المدير العام لوزارة البيئة بيرج هاتجيان كتاباً الى الوزير ناظم الخوري يقترح فيه الموافقة على تحويل هذه المنطقة الى منطقة مقالع، بشرط تامين حزام حماية ووقاية وتحريج وكاسر للرياح. ورغم الحاح هاتجيان على ضرورة البت بطلب الشركة سلباً او ايجاباً، إلا ان الوزير الخوري رفض البت بالطلب باعتباره مخالفاً للقوانين المرعية. علماً ان تجميد ملف التصنيف لم يترافق مع ضبط وزارة البيئة لاستثمار المقلع من قبل الشركة.