ليس غريباً أن يستمرّ تدفق الأموال إلى مصارف لبنان. معدلات الفوائد في لبنان متدنّية قياساً على معدلات الفائدة العالمية. هذه المعادلة لم تعد مخفيّة على أحد، وتبعاتها باتت مكشوفة للجميع. الأموال تصبّ في المصارف، لكنها لا تخرج منها إلى الاقتصاد. تسليفات القطاع الخاص نسبة إلى الودائع الإجمالية تبلغ 29% فقط. أين تذهب الأموال المتدفقة، ومن يستفيد منها، وكيف تحقق المصارف أرباحها؟ ولماذا يزيد مصرف لبنان حصّته في شهادات الإيداع للمصارف؟
مبعث هذه الأسئلة هو الوقائع المنشورة والأرقام والمعطيات التي يصدرها مصرف لبنان وتقدّمها جمعية مصارف لبنان. أولّ هذه المعطيات تلك المتعلقة بالميزانية المجمّعة للمصارف. هذه الميزانية تشير إلى أنه رغم ارتفاع حدّة توتّر الوضع السياسي والتذبذب الذي يشهده لبنان، تدفق مبلغ 8035 مليار ليرة إلى لبنان خلال الأشهر الستة الأولى من السنة الجارية. تدفقات الشهر الأخير وحده، أي حزيران، بلغت 1621 مليار ليرة. وفي المجموع، بلغت قاعدة الودائع في القطاع المصرفي في نهاية حزيران نحو 205366 مليار ليرة (136.23 مليار دولار).
عندما تدخل كل هذه الأموال إلى قاعدة الودائع لدى مصارف لبنان، هذا يفترض أن الكمية الأكبر منها ستوظّف في القطاعين العام والخاص، أي أنها ستموّل حاجات الدولة وحاجات مؤسسات وشركات القطاع الخاص، وحاجات الأفراد أيضاً. لكن أرقام الميزانية المجمّعة، في نهاية حزيران 2013، تشير إلى أن الأموال المتدفقة إلى القطاع ظهرت في بنود مختلفة في الميزانية المجمعة بما يؤكد أن القسم الأكبر منها يوظّف بطريقة مباشرة وغير مباشرة في عمليات ريعية الطابع تحقق المال السهل «من دون حكّ دماغ» على حدّ تعبير مصادر في مصرف لبنان. حسبة صغيرة لأرقام الميزانية المجمعة تؤكد أن التسليفات للقطاع الخاص تمثّل 29% من الودائع الإجمالية، أما التسليفات للقطاع العام (باستثناء مصرف لبنان) فهي تمثّل 24% من الودائع، فيما تمثّل ودائع المصارف لدى مصرف لبنان نحو 41.2%. وبالتالي، فإن حصّة القطاع العام من تسليفات المصارف تبلغ 65.2% من الودائع، فيما يذهب الثلث لتمويل الاقتصاد الوطني.
هذا العيب ليس مصدره المصارف وحدها، بل مصدره السلطات المالية والنقدية التي ولّدت هذا النموذج، لكنه عيب تستفيد منه المصارف بصورة كبيرة وتشجّعه باستمرار وقد أصبحت «تقاتل» في سبيل استمراره. فهو يوفّر لها مستوى مرتفعاً من الربحية وإن حاجج معظمها بأن ربحيته منخفضة قياساً على أصوله وعلى رأس ماله مقارنة مع المؤشّر نفسه لدى المصارف الخليجية. ينسى هؤلاء أن لكل اقتصاد طبيعته وهويته، وأن المصارف الخليجية منشأة على بحر من النفط.
ترجمة كل هذا الكلام تظهر بوضوح في معدلات الفوائد بين الودائع والتسليفات، سواء بالليرة اللبنانية أو بالدولار:
ــ الفائدة على التسليف بالليرة تبلغ 7.3% مقارنة مع 5.45% فائدة على الودائع بالليرة، أي بفرق بينهما يبلغ 1.85%. تمثّل الودائع بالليرة 33% من الودائع الإجمالية، أما التسليفات بالليرة فهي تبلغ 41% من توظيفات المصارف.
ــ الفائدة على التسليف بالدولار تبلغ 6.94% مقارنة مع 2.95% فائدة على الودائع بالدولار، أي بفرق بينهما يبلغ 3.99%. تمثّل الودائع بالدولار 67% من الودائع الإجمالية، أما التسليفات بالدولار فهي تبلغ 59% من توظيفات المصارف.
ــ الفائدة على الودائع التي تضعها المصارف لدى مصرف لبنان تبلغ 2.53% بالدولار، و2.92% بالليرة.
ــ الفائدة على شهادات إيداع مصرف لبنان تبلغ 8.84% بالليرة اللبنانية.
ــ الفائدة على سندات الخزينة بالليرة تبلغ 6.64%، وعلى السندات بالدولار تبلغ 6.69%.
على هذه الأسس تستقبل المصارف الودائع، وعليها أيضاً توظّف الأموال، فالمعروف أن مصدر أرباحها هو إدارة هذه الأموال، فهي تربح من الفرق بين كلفة ما تدفعه على الودائع ومردود ما تحصله من التسليفات، رغم أنها تحصّل نحو ربع أرباحها من العمولات ومن إيرادات مختلفة.
بين كومة الأرقام هذه، يكمن رقم غير ظاهر كثيراً يعبّر عن قيمة شهادات الإيداع التي أصدرها مصرف لبنان. ففي نهاية أيار 2013، بلغت قيمة الشهادات المصدرة نحو 33934 مليار ليرة، أي بزيادة خلال الأشهر الستة الأولى من السنة الجارية قيمتها 10861 مليار ليرة. المستفيد المباشر الأوحد من إصدارات شهادات الإيداع هذه هو المصارف لأن الفائدة عليها تبلغ 8.84% أي بفرق كبير عن كلفة الودائع. الأرقام وحدها تشير إلى الوقائع، وإلى درجة انخراط المصارف في الاقتصاد الوطني، ودرجة استفادتها من النموذج.