قبل أيام، منعت دورية في قوى الأمن الداخلي مواطناً في بلدة بخعون ـ الضنية من إنجاز سقف باطون بحجة أنه مخالف، ولا يملك رخصة قانونية للبناء، وقد قام عناصر الدورية بإنزال قالب خشب سقف الباطون على الأرض، بعد إشكال وقع بينه وبين صاحب البناء.
لكن لم تكد تمضي 24 ساعة على الحادثة، حتى كان صاحب سقف الباطون المخالف يعيد تركيبه من جديد، ويباشر الاستعدادات لإنجازه سقفه، وهي فترة ليست كافية بالتأكيد كي يحصل على رخصة قانونية للبناء مستوفاة كامل الشروط، لكنه استطاع تأمين «سقف» يحميه، أو دفع مبلغاً معلوماً لعناصر الدورية أو آمرها، وهذا يعدّ كافياً لإمرار المخالفة وغض الطرف عنها.
مثل هذه الحوادث تتكرر دائماً في الضنية، وتكاد تصبح يومية في فصل الصيف تحديداً، وتطاول كل بلدات المنطقة وقراها الـ48 على نحو روتيني، ما يجعل عمليات الكرّ والفرّ بين المواطنين المخالفين والقوى الأمنية دائمة.
لكن مشكلة البناء المخالف في الضنية ليست جديدة، بل هي مشكلة مزمنة وتعود إلى سنوات وعقود طويلة، نتيجة عدم فرز الأراضي بالشكل القانوني، فأغلبها لا يزال مسجلاً باسم الأجداد، ما يجعل الورثة من الأحفاد أو من يليهم غير قادرين على الاستفادة من أراضٍ كثيرة يملكونها صورياً، أو أنها في بعض البلدات والقرى لا تزال مسجلة حتى الآن باسم «الآغوات» منذ أيام العهد العثماني، الأمر الذي يُعقد المشكلة أكثر، إلى درجة أن بعض القرى في الضنية لا يوجد فيها مبنى واحد قانوني، من بين مئات المباني فيها.
طوال السنوات الماضية، ومع بقاء هذه المشكلة بلا حلّ بالرغم من تزايد أعداد السكان، وبروز حاجات ملحة لبناء مساكن أضافية تستوعب الأعداد المتزايدة، كان الحلّ يأتي عبر طريقتين: إما السعي لدى أحد النواب أو السياسيين لتوفير «غطاء» سياسي منه لدى قوى الأمن الداخلي، وتحديداً من قبل نواب المنطقة أو النائب السابق جهاد الصمد؛ وإما التواصل مباشرة مع ضباط أمنيين من أجل «غض» نظرهم عن المخالفة، مقابل مبلغ مالي يُتوافَق عليه مسبقاً بين الطرفين.
دفع رشىً لعناصر قوى الأمن الداخلي لإمرار مخالفة بناء ما، أصبح أمراً معروفاً في المنطقة، وأصبحت عبارة «طعمي التمّ إذا بدّك تصبّ» شائعة على كل الألسن، ولعل ذلك يفسر التغيير المستمر لعناصر الدرك في المنطقة، أو نقل آمرها إلى منطقة أخرى، بعد ارتفاع الشكاوى منهم، أو ارتفاع «روائح» فسادهم.
لكن «تشبيح» عناصر قوى الأمن الداخلي على المواطنين أخذ في السنوات الأخيرة بعداً أكثر استفزازاً، ذلك أنهم كانوا بالتعاون مع عناصر من فرع المعلومات يتساهلون مع مواطن يريد صبّ سقف باطون إذا كان من مؤيدي تيار المستقبل، مع قبضهم المعلوم، بينما كانوا يتشددون في ذلك إذا كان المواطن من معارضي التيار الأزرق حتى لو دفع «معلومه».
كادت هذه الاستنسابية تحدث مشاكل عدة في المنطقة. فقبل أشهر، وفي بلدة سير مسقط رأس النائب أحمد فتفت، أراد مواطن من آل موسى يعتبر من معارضيه إنجاز سقف باطون مخالف، لكن عناصر الدرك والمعلومات تدخلوا ومنعوه، عندما لفت نظرهم إلى أن مواطنين آخرين في البلدة يخالفون مثله وليس هناك من يمنعهم، وأنه يصبّ في أرضه وليس في أرض الغير مثل بعضهم، جاءه الرد أنه «إذا أردت أن تمشي حالك، اطلب من الدكتور أحمد (فتفت) هذا الأمر وسيكون منتهياً».
لكن الرجل رفض استغلاله على هذا النحو، ولم يقبل محاولة البعض إمساكه من اليد التي توجعه، فاغتنم في ساعة متأخرة ذات يوم غياب العناصر الأمنيين واستعان بعدد كبير من شبان عائلته وجيرانه، الذين قاموا بسد الطريق المؤدية إلى المكان وتجمّعوا في محيطه وهم يحملون عصياً وأدوات حادة وأسلحة فردية، ما جعل العناصر الأمنيين يتراجعون عن قمع المخالفة بعدما وجدوا أنهم غير قادرين على مواجهة اعتراض الأهالي عليها.
هذا المشهد تكرر مراراً، وفي كل مرة كانت الدعوات توجّه إلى الجهات المعنية كي تتعامل مع هذه المشكلة بشكل مغاير، مثل السماح للبلديات بإعطاء رخص بناء ضمن شروط معينة، أو عدم الاستنسابية في تعامل القوى الأمنية مع المواطنين، لكن بلا طائل، بعد رواج معلومات أن بعض مرافقي فتفت والمقربين منه يستغلون حاجات الناس على نحو واسع، وخصوصاً عندما تسلم مهمات وزارة الداخلية بالوكالة، وما زالوا حتى الآن، وأنهم يقومون بتغطية المخالفين مقابل حصولهم وعناصر من قوى الأمن الداخلي أو فرع المعلومات، مقربين منهم سياسياً، على مبالغ مالية محددة سلفاً.