لا رواتب للقطاع العام. نعم هناك رواتب للقطاع العام. اللبنانيون يتفرّجون اليوم على مسرحية جديدة. هم لا يعلمون ما هي القصة الفعلية التي بنيت على أساسها مسرحية «رواتب القطاع العام». المعنيون بينهم يسألون عن حقيقة هذا الوضع؛ هل صحيح أن الدولة لا تملك الأموال اللازمة لدفع رواتب موظفيها؟ هل صحيح أن هناك أموالا لكن لا يمكن دفعها؟ كيف بلغنا هذه المرحلة؟
الأكيد أن المرحلة التي بلغناها اليوم في ما خصّ مالية الدولة هي أكثر سوءاً من أي مرحلة سابقة. مالية لبنان تسير في المسار الخاطئ منذ مطلع التسعينيات. قصّة الرواتب التي أثارتها «الأخبار» قبل يومين، ليست قصّة أموال الدولة، بل هي قصّة تهديم بنية الدولة وصرف المال العام من دون أي سند قانوني ومن دون محاسبة ولا رقابة. فقد بلغنا اليوم مرحلة وجود أموال في حسابات الدولة لا يمكن استعمالها لسداد رواتب موظفي الدولة في ظل عدم وجود سند قانوني ــ دستوري لهذا النوع من الإنفاق. عادة تكون الموازنة هي السند، لكن في ظل استحالة إقرار موازنة قريباً، وفي ظل حكومة تصريف أعمال، ما هو الحلّ المتاح؟
الإجابة تأتي في بيان وزارة المال الصادر أول من أمس تعليقاً على ما ورد في «الأخبار» في عدد السبت الماضي تحت عنوان «لا رواتب للقطاع العام». الوزارة تشير إلى أن «لا مشكلة في السيولة لدفع الرواتب في الوقت المحدّد لكن المشكلة تكمن في حاجة الوزارة الى تأمين اعتماد إضافي بقيمة 1200 مليار كون موازنة بعض الوزارات بحسب القاعدة الاثني عشرية لا تغطي المبالغ التي أُضيفت جراء غلاء المعيشة والتوظيف الاضافي الذي حصل في السنوات الاخيرة... هذا الاعتماد بحاجة إلى مرسوم استثنائي والاجراءات لتأمينه بدأت، وقد وضع وزير المال رئيس الجمهورية في الأجواء مسبقاً».
إذاً، المشكلة تكمن في أي حلّ قانوني يمكن استنباطه لهذه الغاية. بحسب مصادر مطلعة، فإن رئيسي الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وافقا على توقيع مرسوم استثنائي يفتح اعتمادات إضافية بقيمة 1200 مليار ليرة، وفق الطريقة المتداولة حالياً، أي المراسيم الجوالة. لكن هذه المصادر لم تُشر إلى توقيت صدور المرسوم، ولم تناقش في ما إذا كان هذا الإجراء قانونياً ودستورياً.
يقول مطلعون على هذا الملف إن المشكلة تعود إلى أيام قانون الـ8900 مليار ليرة الذي صدر بصورة استثنائية لفتح اعتمادات إضافية تغطّي الفرق بين اعتمادات عام 2005 وما يمكن إنفاقه عبر القاعدة الاثني عشرية وبين الإنفاق الفعلي في عام 2012. مشروع القانون، بصيغته الأصلية كما اقترحته وزارة المال، كان يطلب اعتمادات إضافية بقيمة 10500 مليار ليرة، «لكن الحملة التي ساقتها بعض الأطراف، وخصوصاً الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة، أدّت إلى تسوية خفضت المبلغ المطلوب من 10500 مليار ليرة إلى 8500 مليارة ليرة من دون أي مبررات مالية أو قانونية، رغم أن وزارة المال أبدت موقفها الرافض لهذا الأمر لكون غالبية المبلغ المطلوب تمثّل رواتب وأجوراً لا يجب ربطها بتسوية سياسية من هذا النوع، وقد أُبلغ مجلس النواب ومجلس الوزراء أن الإجازة القانونية لدفع الرواتب والأجور لا تكفي إلا لشهر أيلول، إلا أن التسوية أدّت إلى هذه التركيبة الهجينة».
وهذه التسوية، كما يروي المطلعون، تضمنت أيضاً اتفاقاً على أن دفع المبلغ الباقي يجب أن يخضع للتسوية السياسية نفسها التي اتفق عليها رؤساء الدولة الثلاثة (ميشال سليمان، نبيه برّي، نجيب ميقاتي) مع الرئيس السابق فؤاد السنيورة».
على أي حال، فقد علمت «الأخبار» أن مشروع المرسوم لفتح اعتمادات إضافية بقيمة 1200 مليار ليرة جاهز لدى وزارة المال وينتظر التوصل إلى مخرج لتوقيعه من قبل رئيسي الحكومة ومجلس النواب. المشكلة أن هذا الحلّ يستوجب موافقة مجلس الوزراء قبل إحالته على مجلس النواب «ونحن اليوم في ظل حكومة تصريف أعمال، فهل هذا الأمر يعدّ من ضمن صلاحيات تصريف الأعمال؟» يسأل مصدر مطلع. ويشير المطلعون إلى وجود أكثر من حلّ لهذه القضية، فيمكن أحد النواب أن يقدّم مشروعاً بهذا الأمر، أو لكتلة نيابية... كل الحلول واردة.
رغم تعدّد الحلول، لا يزال احتمال تطوّر المشكلة قائماً، لأن المشكلة الأساسية، وفق الوزير السابق شربل نحاس، تكمن في غياب موازنات الدولة، وغياب حساباتها. ففي الأعوام التي تلت عام 2005 لم يكن لدينا أي موازنة، وقبل ذلك كانت المشكلة تقتصر على أن الموازنات تنجز بعد المهلة الدستورية وتقرّ في نهاية السنة التي تطبق فيها. وبين عامي 2005 ـــ 2009 كان فريق الرئيس السنيورة يعد مشاريع موازنات على طريقته، ولم تكن تصدر بسبب ما وُصف بأنه «إقفال لمجلس النواب». لاحقاً، تبيّن أن هناك مشكلة إضافية تتعلق بعدم وجود حسابات للدولة اللبنانية في ظل نص دستوري صريح وواضح يفرض إقرار الحسابات عن السنوات السابقة كشرط أساسي للموافقة على الموازنة التالية.
في هذا الوقت، كان الإنفاق الحكومي قد تطوّر بصورة كبيرة، حتى إنه تضاعف، وبالتالي لم يكن هناك أي نصّ قانوني يرعى إنفاق المبالغ الواجب على الدولة سدادها، وخصوصاً رواتب وأجور موظفي القطاع العام. فالقاعدة الاثني عشرية لم تكن توفّر أي حدّ أدنى من إنفاق هذه المبالغ، وحتى إن التوسّع في تفسيرها لم يكن يغطّي كل النفقات اللازمة للرواتب والأجور ولإنفاق أكبر أيضاً في مجالات الأشغال العامة والصحة وغيرها. في النهاية، جاءت التسوية لتشجع المخالفات الدستورية التي صبّت في مرسوم عُرف بمرسوم الـ10500 مليار ليرة، ثم تقلّص بعد تسوية سياسية إلى 8500 مليار ليرة. لماذا تقلّص؟ السبب هو أن إنفاق حكومة السنيورة كان على أساس مشاريع الموازنات، وهذه مخالفة كان يحاول السنيورة وفريقه تبريرها بأنها الحلّ لضرورات تسيير المرفق العام وتطورات الإنفاق الحكومي الضروري، سواء لجهة الرواتب والأجور أو لحاجات الوزارات والإدارات الرسمية... وبالتالي كان السنيورة يفاوض على قوننة الإنفاق السابق في عهده، حتى إن رئيس الجمهورية وقف طويلاً قبل أن يوقّع المرسوم الاستثنائي الشهير... إلى أن جاءت التسوية الهجينة. وبرأي نحاس، إن هذه التركيبة ليست سوى نتاج غياب الموازنات، ولعلها السبب في التمهل أو الاستمهال في إنجاز الموازنات والمماطلة بها. فقد رأى المعنيون أن ما يجيزه هذا المرسوم شبيه بما تجيزه الموازنة! الوضع يزداد سوءاً.