تفيد بعض الدراسات بأن الصحافيين عندما يبلغون الأربعين من العمر، يدخلون في أزمة. لا تعود المهنة ترضيهم، ولا تلبي تطلعاتهم. من كان يرغب منهم في تحسين العالم سيكتشف أنه كان يحلم. ومن كان يعتقد منهم أنه قادر على إحداث تغيير، سيكتشف أنه واهم. شعور باللاجدوى يتملّك الكثيرين قبل أن يتخذوا قرارهم: الاستمرار من دون أوهام، أو الانسحاب. الأمر مختلف بالنسبة إلى عساف أبو رحال. لم يعش أزمة الأربعين هذه، وهو الذي «انتسب» رسمياً إلى مهنة الصحافة بعدما تجاوز الأربعين من عمره. لذلك ربما، بقي يمارسها حتى اللحظة الأخيرة من حياته بأحلام المبتدئين وشغفهم. لكن من يعرف عسّاف، يعرف أن هذا ليس السبب الوحيد، بل التزامه الذي لم يحد عنه في كلّ ما مارسه من أعمال، أو ما أقامه من صداقات.

قبل سنوات كثيرة، كان عساف أبو رحال فلاحاً جنوبياً، يعمل في قريته ليعيل عائلته الصغيرة. لم يعش الاحتلال الإسرائيلي متفرّجاً، بل أسهم في تحرير الجنوب من خلال تهريب أسلحة إلى المقاومين. كذلك نقل صوت أبناء منطقته من خلال مراسلته بريد القرّاء في جريدة النداء. كان يكتب عن الاحتلال وعن المقاومة. عن المزارعين وعن الرعاة. عن المدارس الفقيرة والأحلام الكبيرة. عن الرعيان والمواشي. عن كساد يطاول المواسم وعن أمراض تفتك بالحيوانات.
وعندما صار صحافياً بشكل رسمي، بقي يكتب عن هذه المواضيع التي لا تمتّ إلى «الصحافة الجديدة» بصلة. يتأخر نشرها، فيتصل إما معاتباً، إما شاكياً. ويسرد خلال اتصاله، المعاناة التي تكبّدها لكي ينجز الموضوع: من المسافة الطويلة التي قطعها، إلى انتظار الكهرباء ليطبع الموضوع، إلى انتظار اشتراك الإنترنت أو البحث عن فاكس لإرساله ليضعنا أمام معاناة الصحافي في المناطق النائية. حتى عندما نلتقي، وبعيداً عن ضغط مادة كان يرغب في نشرها، نفشل في محاولات إقناعه بأن ما يكتب عنه «لا يريده الجمهور». يهزّ رأسه ولا يجيب، ولا يرسل إلا ما يراه هو من مشاكل تعوق حياة مواطنين اختاروا البقاء في أرضهم النائية عن الدولة، وعدم النزوح إلى المدينة.
لم يواجه عساف أبو رحال «أزمة الأربعين» مع الصحافة، لأنه لم يتعامل معها كمهنة، بل كمواطن ملتزم. ونحن، إذ نوجّه له تحية اليوم في الذكرى الثالثة لاستشهاده برصاص الاحتلال الإسرائيلي في العديسة، لا يفوتنا أنه كان يشكل بحد ذاته نموذجاً للقضايا التي يطمح كلّ صحافي إلى إبرازها إلى العلن، تسليط الضوء عليها والقول إن لبنان يُبنى بمواطنين من أمثاله. مواطنون، لم نعرف طائفتهم إلا عندما بدأنا البحث عن مكان دفنهم.