استراتيجية الدين العام المتوسطة الأمد. ما معنى هذا الأمر؟ هل ينخفض الدين العام أم الهدف مختلف؟ هل تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تغيير جذري في التعاطي مع الدين العام؟ في حال كانت الاستراتيجية أمراً حيوياً للمالية العامة، من هي الجهة التي تتحكم في منسوب الدين العام وكلفة خدمته؟ هل تعبّر هذه الاستراتيجية عن مستوى الأهمية التي يفترض أن تولى لمسألة بحجم الدين العام؟
«لن يحصل أي تغيير بالمعنى الجذري على الدين العام». هذه العبارة التي صرّح بها المدير العام لوزارة المال ألان بيفاني لـ«الأخبار»، على هامش مؤتمر صحافي عقده أمس، ليست كافية لتفسير أهداف استراتيجية الدين العام. هذه الاستراتيجية لا تذهب بعيداً في معالجة قضية الدين العام في لبنان، بل هي محدّدة في إدارة هذا الدين ضمن حدود ضيّقة. الاستراتيجية التي أطلقها بيفاني بعنوان «نحو إدارة فضلى للدين العام» ليست مصممة لمعالجة أسباب الدين العام وأنواعه وطرق معالجته والتخلص من كلفته الاقتصادية، بل تنطلق من توصيف للدين على أساس أنه «نتيجة ملموسة للتراكمات التي حصلت في لبنان، كما أصبح بدوره وبسبب حجمه مشكلة ترتب آثاراً كبيرة على المستويات الاقتصادية والمالية والنقدية». وبالتالي فإن الاستراتيجية المطروحة تكاد تكون أقرب إلى «إدارة أزمة»، ولا تتطرق إلى طرق احتساب الدين العام رغم أن هذه الإشكالية هي أساسية في لبنان حيث يمكن احتساب الدين العام بواسطة أكثر من طريقة تنتج أكثر من 4 نتائج مختلفة، كلّ منها ترتب أعباءً مختلفة على الدولة اللبنانية.
ورغم أن طريق الاستراتيجية يدور في حلقة مفرغة بلا نهاية لأنه لا يعالج الدين العام بل يديره، قد يمثّل، يوماً ما وبقرار ما، خطوة نحو الذهاب أبعد من إدارة الأزمة. فالاستراتيجة ترسم طريقاً «يوضح الرؤية للدولة اللبنانية على المدى المتوسط والبعيد، ويمكنّها من استعمال مواردها بطريقة فعالة، ويتيح للأطراف التي تتعامل مع الدولة اللبنانية الاستعداد لعمليات التمويل على أساس جليّة» يقول بيفاني. ويضيف المدير العام لوزارة المال أن الاستراتيجية توفّر «سهولة التمويل، وإطالة آجال الاستحقاقات بأفضل كلفة ممكنة».
تقترح استراتيجية الدين العام المتوسطة المدى أمرين:
ــ الاقتراض بالعملات الأجنبية خلال الفترة 2013 – 2015 بمعدل 20% أو 25% من الحاجات التمويلية السنوية. (ليس بالضرورة أن يكون هذا المعدل هو المعتمد بل هذا المعدل هو مجرّد مثال).
ــ الاستمرار في عملية التمديد التدريجي لآجال الاستحقاق بهدف إطالة معدل الأجل الوسطي للدين وإطالة الفترة الوسطية لتثبيت الفوائد. ورغم أن تمديد آجال الاستحقاق يترافق مع ارتفاع الأكلاف المتوقعة، فإنه يوفّر الحماية من مخاطر ارتفاع أسعار الفائدة في المستقبل والتي يصعب على لبنان تحملها في الظروف الحالية.
بالنسبة إلى الاقتراح الأول، فهو يعني أن الدولة ستحدد على مدى 3 سنوات حاجتها من الاقتراض بالعملات الأجنبية وتحدد طرق الاقتراض وآلياته. أما في ما خصّ الاقتراح الثاني، فهو يعني أن إدارة الدين العام تقترح استبدال أو إصدار سندات ذات أجل قصير يمتد إلى سنتين أو ثلاث سنوات بسندات ذات أجل استحقاق يمتدّ إلى 10 سنوات وربما أكثر.
إذاً، إدارة الدين العام هي الفرق بين ما كان يحصل سابقاً وبين ما تقترحه الاستراتيجية إذا تبنّاها مجلس الوزراء. ففي السابق «كنا نستدين على أساس حاجتنا إلى المال خلال الوقت الآني، ولم نكن نرسم استراتيجية متوسطة المدى وبعيدة المدى» يشير بيفاني. أما مفاعيل هذه الاستراتيجية «فهي تفتح الطريق أمام خطوات تمويلية. فكلما كانت واضحة تفاعلت الأسواق مع حاجاتنا بطريقة أفضل قد تؤدي إلى خفض كلفة الاستدانة، لأنها توضح الرؤية للأسواق».
على الرغم من أهمية وجود استراتيجية محددة وواضحة لإدارة الدين العام على مدى أبعد، يحصل تمديد آجال الاستحقاقات منذ فترة بطريقة ارتجالية عبر وزارة المال ومصرف لبنان، وبالتالي فإن الاستراتيجة المطروحة لا تحمل مقاربة مختلفة عمّا كان متبعاً خلال السنتين الأخيرتين.
الاستراتيجية المقترحة كانت قد عرضت ونوقشت في اجتماع الهيئة العليا لإدارة الدين العام، التي اجتمعت للمرّة الأولى في 4 نيسان 2013. وقد توافق عليها المجتمعون تمهيداً لعرضها على مجلس الوزراء لإقرارها. اللافت أن الهيئة تركت للمستوى السياسي اتخاذ القرار في تغيير المقاربات، وركّزت عملها على تحسين آليات تأمين الحاجات التمويلية للدولة التي كانت تخضع لتنسيق بين حاكمية مصرف لبنان ووزارة المال.
وبحسب بيفاني، فإن الاستراتيجية المتوسطة المدى استندت إلى مؤشرات الدين العام على مدى العقدين الماضيين. يمكن وصف هذه المؤشرات بأنها ناتجة من «فوضى خلّاقة» رافقت عمليات الاستدانة وتمويل كلفتها خلال الفترة المذكورة. هذه الفوضى ظاهرة للعيان في مؤشرات بيفاني؛ الارتفاع الأكبر في الدين العام حصل خلال بين عامي 1993 – 2002 بمعدل تغيير سنوي يبلغ 25%، أما خلال العقد الثاني، أي بين عامي 2003 – 2012، فلم تتعدّ نسبة التغيير السنوي مستوى 7%. هذا التفاوت في التغيير ينسحب أيضاً على معدلات الفوائد التي سجّل التغيير السنوي فيها 25% وسطياً خلال العقد الأول، وسجّل 2% وسطياً خلال العقد الثاني.
وتعدّ أهداف الاستراتيجية متواضعة قياساً على حجم مشكلة الدين العام، لكن يفترض بها أن تحسّن إدارة العجز في الموازنة أو على الأقل أن تشير إلى مكان الضعف في هذا المجال، وخصوصاً أن العجز هو المصدر الرئيسي لزيادة الدين العام. كذلك، فإن إدارة السيولة قد تمثّل أحد أهم الموارد التي يمكن استعمالها أو الانتباه إليها في استراتيجية إدارة الدين. فعلى سبيل المثال، إن وجود حساب خزينة موحّد يمكّن من استعمال إيداعات القطاع العام بشكل يحدّ من اللجوء إلى المزيد من الاستدانة، إذ إن هذه الإيداعات تبلغ في نهاية 2012 حوالى 8.6 مليارات دولار، وبالتالي يمكن استعمالها لخفض نسبة الدين العام ليصبح الصافي منه قياساً على الناتج المحلي 118%.
في المحصّلة، فإن الاستراتيجية «قد تحقق وفراً في كلفة خدمة الدين لأننا سنكشف الطريق أمام الدولة والسوق، ما قد يسمح لنا بالحصول على تمويل بكلفة منخفضة عن السوق» وفق بيفاني. لكن المشكلة أن التحكّم في الدين العام أمر لا يعود إلى هذه الإدارة، «فعلى سبيل المثال، في حال قرّر مجلس الوزراء زيادة الدين العام بمبلغ ما خلال سنة معيّنة، لا يسعنا القيام بشيء في هذا المجال».