كشفت «الأخبار» وجود فساد قضائي ــ أمني، في تحقيق نشرته (العدد ٢٠١٦ الخميس ٣٠ أيار ٢٠١٣) تحت عنوان «قضاة وضباط يحمون شبكة مخدرات: ابن «النافذ» يفلت من العقاب». بعد نشر هذا التحقيق مباشرة، قررت هيئة التفتيش القضائي إحالة قاضيين على المجلس التأديبي، مع اقتراح رُفع إلى وزير العدل شكيب قرطباوي بتوقيف أحدهما عن العمل. وانطلاقاً من هذا الاقتراح، وعملاً بأحكام المادتين 90 و106 من المرسوم الاشتراعي رقم 150/83 (قانون تنظيم القضاء العدلي)، قرر وزير العدل توقيف القاضي عن العمل.
منذ ايام، وبعد اقل من شهرين على نشر التحقيق، صدر قرار مجلس تأديب القضاة، وقضى بخفض 4 درجات لكل من القاضيين المتهمين. العقوبة ليست عابرة ابدا، فهي تعني «الادانة»، وتعني ايضا إعادة القاضيين 8 سنوات إلى الوراء وخسارتهما معنويا: سجلّ اسود ووصمة عار.
الا ان القاضي الموقوف سابقا عاد الى عمله في قصر العدل وحمل ميزان العدالة مجددا، في الوقت الذي كان المتابعون لهذه القضية وفصولها الفضائحية المذهلة ينتظرون ان تلحق به القاضية الاخرى التي لم يجر توقيفها عن العمل ابدا. وهنا تبرز الاشكالية الكبرى، اذ ان بقاء القاضيين في عملهما، على الرغم من ادانتهما، يؤدّي الى الارتياب باحكامهما دائما، بحسب المتابعين. كما يؤدّي الى المزيد من الخيبات كون المعنيين بضمان نزاهة القضاء واستقلاليته لم يحسموا امرهم بعد في العمل على استئصال اشكال الفساد المستشرية داخل قاعات المحاكم واروقتها!
القاضيان يمكنهما التقدم باستئناف أمام الهيئة العليا للتأديب، التي يمكنها أن تفسخ قرار مجلس التأديب، ويصبح كأنه لم يكن، وهو ما حصل في منتصف حزيران الماضي عندما فسخت الهيئة التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الاعلى جان فهد قرارا يقضي بصرف قاض من الخدمة على خلفية تورطه بالفساد واستبدلت عقوبته بخفض 4 درجات من خدمته. مصادر قضائية أبدت تخوفها من حصول هذا الأمر مجددا، لا سيما ان الاتصالات القضائية ــ السياسية قد نشطت في هذا الملف على نحو لافت. إضافة إلى ذلك، يتردد أن كبار القضاة يرون في دخول وزير العدل مرحلة تصريف الأعمال ضعفاً ومحدودية سلطة، وبالتالي يمكنهم كسر إرادته وتبرئة القاضيين. اذ كان للوزير قرطباوي دور بارز في تحريك ملفهما. وبدا متحمساً للسير حتى النهاية ومعاقبة القضاة الفاسدين، بحسب ما كان قد صارح به الرأي العام.
القاضيان المعاقبان باتا معروفين، وكل من يتقاضى امامهما سيكون له الحق بالارتياب. القضاة، قبل سواهم، يعرفون بلغة القانون ماذا يعني «الارتياب المشروع» ويدركون تماما آثاره على النظام القضائي برمّته. وهذه الاشكالية ليست عابرة ايضا، فمجلس التأديب لم يطرد القاضيين، ولكنه لم يستطع أن يمنع صدى «الفضيحة» من الوصول إلى مسامع الناس، وبالتالي كأنه يقول لهم، هكذا ببساطة، لدينا قضاة بـ«سجل أسود»، وهؤلاء هم من سيجلبون العدالة لكم! يزداد هذا الأمر تعقيداً في ظل السرية، المبالغ فيها، التي يعتمدها القضاء في لبنان لناحية تفاصيل التحقيقات مع القاضيين. ماذا قالا؟ وبماذا دافعا؟ وبأي تهمة ادينا؟ لا يمكن أخذ أي تفصيل من قضاة مجلس التأديب، الذي ترأسه القاضية سهير الحركة، ومعها القاضيان سهيل عبود وأيمن عويدات. وفي المقابل لا يمكن الركون إلى التحليلات. ولكن هل سيكون مقبولا بعد الآن الضغط على الصحافة والاعلام او ابتزازهما او ترهيبهما بحجّة المحافظة على هيبة القضاء؟ هل حصانة القاضي تعني غض الطرف عن سلوكه وممارساته التي تسيء الى القضاء وتدمّر الثقة به؟ الاشارة الى الصحافة والاعلام في هذا السياق مبرر، لأن القاضية التي صدر بحقها قرار التأديب الأخير، كانت قبل صدور القرار، قد تقدمت بشكوى قضائية ضد «الأخبار» لنشرها التحقيق المذكور. يومها تلقت نصيحة من أحد العاملين في القضاء بعدم التقدم بهذه الشكوى، كونها محالة إلى التفتيش، وعليها انتظار قرار التأديب النهائي. اليوم، صدر القرار وادانها بما نشرته «الأخبار»، فأي معنى يبقى لهذه الشكوى؟ نعم، يبقى الأمر بيد القضاء!
اذاً، علمت «الأخبار» بأمر العقوبة الأخيرة، رغم أن القضاء لم يعلنها بشكل رسمي. تقول المعلومات إن القاضيين عوقبا في قضية المخدرات المذكورة، هذه القضية التي برزت فيها اسماء شخصيات نافذة وثرية تدخّلت بشكل سافر مع القاضيين وضباط الامن لصالح افلات الابناء المتورطين ببيع المخدرات لطلاب المدارس والجامعات. لماذا لم يتحدث القضاء عن تلك الشخصيات؟ القاضيان كانا الاداة، او طرفاً من جملة اطراف تآمرت على مبدأ المساواة تحت القانون. لماذا بقيت الرؤوس الكبيرة بعيدة عن العقاب؟ لماذا يُحاسب طرف واحد من اطراف الفساد؟ الا تمثّل الاطراف الاخرى سلسلة في منظومة الفساد يُفترض ان تتهاوى؟ كل هذه الأسئلة يطرحها المحامي والناشط الحقوقي نزار صاغية، ويضيف إليها سؤالا رئيسا: «كيف للمواطن أن يشعر اليوم بالأمان أمام القاضي المعاقب الذي شاع اسمه في قضية فساد وغيره؟ هل يعقل أنه طوال العقد الأخير (2000-2010) لم يصدر المجلس التأديبي إلا قرارا واحدا بصرف قاض واحد من الخدمة؟ على القضاء أن يجد حلاً لهذه المسألة»، يقول صاغية، ويلفت إلى أن «المخاوف تتعزز عندما نرى أن محاسبة القضاة المتهمين بالفساد لم تترافق مع أي إجراء لتعزيز استقلالية القضاة، أو لملاحقة الأشخاص المتورطين في إفسادهم أو في رشوتهم أو في التدخل في أعمالهم، وهم على الأرجح من أصحاب النفوذ والثروات الكبرى. وكأنما يترك لهم المجال مفتوحا لتكرار محاولاتهم وأساليبهم من دون أي رادع، وعلى نحو يسمح باستمرار ثقافة التدخل في أعمال القضاء مع إبقاء النصوص التي تجرّم هذا التدخل نائمة». الأمر نفسه ينسحب على قضية أحد كبار القضاة، الذي أخرج من العمل القضائي أخيراً في قضية فساد، لكن من دون معاقبة الجهات التي «افسدته». كانوا من «علية» القوم، ولم يأت أحد على ذكرهم قضائياً.
منذ أكثر من شهرين، تضجّ اروقة العدلية بأخبار هذه القضية. أبرز ما خلصت اليه هو كسر «العنجهية» المصطنعة عند بعض القضاة. هؤلاء الذين يظنون أنفسهم فوق القانون، والذين طالما طالبوا بإقرار قوانين تمنع الصحافة والإعلام من تداول أخبارهم. ما خلصت اليه هذه القضية مهم على الرغم من نوعية القرار المحبط، فالقضاء سلطة، والسلطة تخضع للمحاسبة، وإلّا تتحول الى سلطة مرفوضة.