8 أيلول 2011. لا أحد قد يكترث لهذا التاريخ. ففي ذاكرة أي منا، سيعبر هذا التاريخ كغيره. بلا أثر. مجرد رقم انتهى. وحدها، ستتذكر ألم ذلك اليوم الذي باتت فيه وحيدة في فراشها. تنتحب الفراق بلا طائل. وكلما يمرّ ذلك التاريخ ستنتشل تيريز حداد من ذاكرتها صورة زوجها انطوان الذي «اختبر كيف يكون الموت فوق وجه الأرض»، تقول.
لمن لا يعرف تيريز، هي زوجة الكابتن الطيار الذي خدم في شركة الخطوط الجوية عبر المتوسط «تي إم إي» 33 عاماً وخرج منها مطروداً بلا شيء. كان ذلك قبل 8 سنوات، عندما تلقى زوجها رسالة من الشركة تبلغه فيها صرفه من الخدمة و45 آخرين. ورقة صغيرة بحجم اليد حرمت الرجل من التحليق نهائياً. ففي ذلك الوقت، كانت رخصة الطيران الخاصة به قد نفدت صلاحيتها ولم يكن بالمقدور تجديدها «على حسابه، إذ كانت تكلف 20 ألف دولار أميركي لا يملك منها أنطوان شيئاً». لكن، مع ذلك، لم تبدأ قضية حداد مع الورقة، فقبل عام من صرفه ورفاقه، كانت الشركة قد أوقفتهم عن العمل «لفترة مؤقتة بسبب معاناتها من أزمة مالية وإيقاف رحلاتها التجارية».
9 سنوات مرّت على الصرف من العمل. مات أنطوان قبل عامين بعدما انفجر قلبه بسبب امتناع الشركة عن دفع تعويضاته. بقيت الرسالة و26 مكتوباً آخر عن الردود السلبية لشركات الطيران التي تقدم للعمل معها.
قبل موته، وصل أنطوان إلى «المكان الذي لا يحسد عليه». فالرجل، الذي لم يكن يتقن غير اللعب بتلك الأزرار، وقف حائراً أمام ولديه بعدما نفدت قيمة تعويضه من صندوق الضمان الاجتماعي والبالغ 75 مليون ليرة لبنانية... والمعاشات الأربعة «التي اعترفت بها الشركة بعد المفاوضات». وهو ما لم يكن يرضيه أصلاً، ولكن الضائقة المادية التي عاناها دفعته للقبول بمنّة الشركة التي لم تكن لتعوض 3 عقود من الخدمة. مع ذلك، قد يكون انطوان هو وحده من تقاضى هذا المبلغ، فكثيرون من المصروفين لم يقبلوا بالمعاشات الأربعة التي حاولت الشركة اختزال سنواتهم الطويلة بها.
انطوان الذي مات بـ«حسرة» الشركة التي أمعنت في تمزيق حقوق الموظفين الذين صنعوها، لم يبق وحده على لائحة الموت. فقد لحقه آخر. وعلى الضفة الأخرى، فعلت الحسرة فعلها في باقي المصروفين، فمنهم من مرض وكثيرون لم يجدوا عملاً آخر بسبب سنوات عمرهم. أما من وجد عمل، فقد عمل في مصانع الكرتون أو البلاستيك. ونبيل الياس مثالاً. هذا الرجل الذي يصرف اليوم للمرة الثالثة من عمله الجديد في مجال لا يمت بصلة الى الطيران.
أمس، في المؤتمر الصحافي الذي عقدته نقابة الطيارين اللبنانيين في نقابة الصحافة، كان الياس وحداد وجاكلين سريك ومصروفون كثر يسردون حكاياهم التي طوى بعضها الموت. 9 سنوات، و«الحدوتة» لم تتغير: الصرف التعسفي وحرمان الطيارين من تعويضات نهاية الخدمة وحرمانهم أيضاً من تعويضات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن رواتبهم بالدولار، بعدما عمدت الشركة الى عدم تسجيلها. وقد تقدم هؤلاء بشكوى الى وزارة العمل، ولم يصل الجواب إلى الآن، علماً أنه مرّت سنوات على الشكوى. هذه المماطلة لم تنعكس أبداً على قدرة وزارة العمل، التي اعطت إجازات عمل لطيارين أجانب استقدمتهم الشركة مكان بعض المصروفين «إمعاناً منها في إغلاق الأبواب أمام استعادة الحقوق»، يقول نقيب الطيارين فادي خليل.
أكثر من ذلك، عندما حصلت عملية الصرف كانت الذريعة الأزمة المالية وتوقف الشركة عن تسيير رحلات تجارية. يومها، لم تسدّد ما في ذمتها لمن خدموها. قيل أنها أفلست، ثم بيعت أسهمها والامتياز لمالكين جدد احتكروا الخطوط النظامية بأسعار زهيدة جداً. حينها، ضاع الطيارون في هوية الشارين، ومؤخراً كانت لهم زيارة لنادر الحريري، مدير مكتب رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، لاستيضاح «ما لا يفهمونه». وقد استشفوا من حديثه «الملكية الضائعة، حيث تكلم بصفته مالكاً ووعد المصروفين بمتابعة قضية تعويضاتهم»، يقول أحدهم. ولئن كان المصروفون لم يستقروا على هوية الشاري، إلا أن الأكيد أنهم عرفوا بصفقة بيعة «الدولار الواحد»، والتي ضم إليها «اعتبار تعويضات الطيارين جزءاً من الديون التي وافق على تحملها أصحاب الشركة الجدد»، يتابع خليل. مع ذلك، إلى الآن، لم يحصّل هؤلاء قوت عيشهم، في الوقت الذي يشير فيه خليل إلى أن تعويضاتهم ليست بالقيمة العالية «وهي تعويضات يندى لها الجبين»، خصوصاً إذا ما علمنا أن قيمة الثلاثين سنة من التعب تقرّش بخمسين ألف دولار أميركي في حدها الأقصى. وهنا، قد يصبح من الضروري السؤال عن قيمة تلك الخمسين الف دولار بعد عشر سنوات من المطالبة؟ ماذا تعني 50 ألفاً في ظل تضخّم يصل إلى حدود 60%؟ ماذا عن الغلاء المعيشي؟ ماذا عن ضريبة التعب وفوائده؟ هل ستصرف الخمسون خمسيناً بعد مرور عقد؟ ماذا عن مراسيم غلاء المعيشة، فهل يمكن أن تلحق هؤلاء؟ وماذا عن التعويض الآخر من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟ فهل يمكن أن يسري مرسوم شركة طيران الشرق الأوسط بتسجيل هذه القيمة في الضمان عام 2005 على طياري التي إم أي؟ لا أجوبة عن تلك الأسئلة، ولكن يجدر القول أنه للعلم، الخمسون الفا التي يندى لها الجبين لم تعد تعني شيئاً في ظل الغلاء الفاحش. مع ذلك، قد تنصف عائلات تعيش اليوم بلا قوت.
تلك العائلات التي استبشرت خيراً مع استئناف الشركة مؤخراً لأعمالها من خلال تأمين طائرات جديدة وإعادة تشغيل الخطوط النظامية موضوع الاحتكار. وبحسب خليل، كان «الأمل كبيراً وقد سعينا للتواصل مع المعنيين في الشركة والمسؤولين لإنصاف هؤلاء وضمان حقوقهم ووضعهم أمام مسؤولياتهم». لكن، من دون الوصول إلى شيء.
بعيداً عن المطالبات التي لم تأت بشيء يذكر، طرح المؤتمر الصحافي أمس جملة أسئلة عن التساهل في توظيف الخبرات الأجنبية للعمل في المرافق العامة فيما يحكم على موظفيها بالبطالة؟ وعن السماح لشركات خاصة في احتكار مرفق عام فيما هي تمعن في انتهاك حقوق عشرات الطيارين؟ هذه الأسئلة التي لا يمكن اعتبارها أقل أهمية من تحصيل حقوق الطيارين لم تكن هي جل ما خرج به المؤتمر. فقد كان ثمة ما هو أهم: دعوة نقابة الطيارين «جميع النقابيين والمواطنين إلى المشاركة في الاعتصام التضامني أمام شركة الخطوط الجوية عبر المتوسط». دعوة «الخطوة الأولى» بانتظار ما سيستتبعها من خطوات تصعيدية قد تكون تعطيل التحليق. وقد ترافقت أيضاً مع دعوة وزارة العمل الى وجوب سحب أي ترخيص لأي طيار أجنبي في الشركة والامتناع عن إعطاء أي ترخيص إضافي.