سوء تفاؤل

يبدو أن تفاؤلنا بالربيع العربي كان نوعاً من... سوء التفاؤل. فمَن يقرأ أخبار ليبيا وتونس ومصر وسوريا والبحرين سيوافق فوراً على ما أقوله. والتعبير ليس من اختراعي بل تفتّقت عنه مخيّلة صديقة فايسبوكية، لكن استخدامه هنا بدا لي عين البلاغة. عاد التعبير ليلحّ عليّ بقوة وأنا أتابع تطورات 30 يونيو، أو الطبعة الثانية من «الثورة المصرية»، والتي أخرجت أرانب كثيرة من أكمام مختلفة.

ولمزيد من وضوح الرؤية، ولكي لا نغرق في التفاصيل الكثيرة، فلنتبع منهاج الشهير شرلوك هولمز ونسال: مَن هو المستفيد مما حدث؟ إنّ جردةّ أوليّة للنتائج سوف تُفهمنا بعض ما جرى. أولا: أعادت الموجة الثانية للثورة المصرية تأهيل الشرطة في أذهان الناس، هذه الشرطة التي فظّعت أيام مبارك، عادت لتصبح بعد سنتين من ثورة يناير مقبولة في الشارع المصري. وهذا شيء جيد الى حد ما، فالشرطة إنْ لم تكن مع الشعب «إيد واحدة» خلال دوامها، فإن هؤلاء الموظفين يؤوبون إلى بيوتهم آخر النهار حيث يبيتون بين الشعب شخصياً. والناس، بما هم فيه من طيبة تصالحية ظهرت بعد إسقاط مبارك، أرادوا للشرطة أن تتربّى وتغيّر من «عقيدتها» التي كانت تراعي وتحمي الفاسدين، لكن كان عليها أن تعود إلى عملها، فالبلد لا يمكن أن يؤمّن فقط من الجيش الذي من المفروض أن له مهمات أخرى.
ثانياً، من بين المستفيدين أيضاً "إعلام الفلول"، أي الشخصيات الإعلامية والصحافية التي تربّت على أسلوب النظام السابق وصارت مرتبطة به في أسلوب حياتها أصلاً. نذكر من هؤلاء الرفيقة لميس حديدي والرفيق الثائر عمرو أديب و"شيخة المولد الاستعراضي" هالة سرحان، وصولاً إلى كل «الكرستا»، أي الطاقم الردّاح الذي انتقل من الردح لصالح النظام السابق إلى الردح لصالح الجيش.
قد يقول قائل: طيّب، قلتِ الشيء نفسه عن الشرطة لكنّك رحبتِ بالمصالحة بعد «شدّ الودن»، فلمَ لا يكون الأمر نفسه بالنسبة إلى إعلام مبارك؟
الجواب بسيط: لأن هؤلاء لم يأخذوا الدرس من الثورة الأولى. وهم، عندما أُعطيت لهم حريتهم، أي عندما انتزع لهم الشعب حريتهم، لم يفهموا. ظنّوا أنّ عليهم أن يبخّروا للثوار كما كانوا يبخّرون لمبارك بدلاً من التمرُّن على الأصول المهنية. وهنا، بالضبط هنا، لاقاهم الجيش بمنع بث القنوات الإخوانية والسلفية، والدفع باتجاه بثّ الأخبار التي تُشيطن الإخوان وتؤبلسهم، دون حساب المواطنين الذين كانوا فعلاً يدافعون عمّا يسمّوه الشرعية واللعبة الديموقراطية. فبدا المشهد، بين تصويبات الجيش والمعنيين للأخبار على مدار النهار وبين الشائعات التي يساهمون في بثّها دون أن يرفّ لهم جفن، إضافة الى اللهجة الصاخبة والشخصية في تناول حدث الأرض، أشبه بخناقة ضخمة الكل فيها يردح للكل. هنا أيضاً قد يقول قائل، (هو أنا على الأغلب) إن تلك القنوات الممنوعة كانت قد بدأت بالتحريض الفتنوي الصارخ، ما استوجب إقفالها، وهذا صحيح، لكن بدلاً من أن يقوم العسكر بإيقاف بثّها، كان على القيّمين أن يعاقبوها بما تنص عليه القوانين وإحالتها إلى القضاء.. لا أعلم إن كان هناك قانون مثل هذا في مصر، ولكن أعتقد أن الفعل نفسه، أي تعليق بثّ القنوات عبر استخدام القانون، كان ليترك انطباعاً أفضل لدى المواطنين المصريين ولدى الخارج المراقب.
ثالثاً، حرقت موجة 30 يونيو «الإخوان المسلمين» بشكل قد لا تقوم لهم قائمة بعدها، وهذا سرّ استشراس هؤلاء في الدفاع عن أنفسهم، ويبدو أن السيناريو نفسه بدأ في تونس وليبيا. والغريب أن كل ذلك بدأ أصلاً بتغييرات دراماتيكية في قطر، أبعدت الواجهة التي كانت تموّل وتتحكّم بالتغييرات التي تطال البلدان العربية. حصل ذلك بعد تزايد الاستياء من هؤلاء وافتضاح أدوارهم الوسخة، خصوصاً بالنسبة لمصر وتونس. فالإخوان في مصر تملَّكَهم فجع السلطة ما إن وصلوا إليها، فأخذوا "يزلطون السلطات زلطاً"، ما أصابهم بعسر هضم، وعطّل حذرهم التاريخي، فحصل لهم ما حصل حين ظنّوا أنهم ظلّ الله على الأرض ضاربين عرض الحائط بالقضاء والحريات الشخصية، والأخطر بالديموقراطية ذاتها عبر التلاعب بظروفها، من نوع الانتخابات التي أوصلتهم إلى السلطة والتي تمّت بسرعة قصوى حالت دون مشاركة القوى الجديدة التي قامت بالثورة والتي لم يمكّنها الوقت القصير تنظيم نفسها. كما أن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت في الاستفتاء على الدستور! لا يوجد أي بلد قام باستفتاء على الدستور.. وحين تقوم باستفتاء كهذا، إن حصل، فالغالبية التي تخرج من الصناديق يجب أن تكون ساحقة، لأن الديموقراطية العددية لا تنفع هنا بشكلها المتداول. فالدستور سوف يحكم المواطنين على اختلاف ميولهم وانتماءاتهم الدينية والأيديولوجية وحساسياتهم. هذا اسمه سوء نيّة في لعبة الديموقراطية وتلاعباً بها. لم يكن هناك إخلاص في محاولة تمثيل الشعب المصري، بل نيّة مسبقة بمصادرة السلطة والتحكّم بما قد يتبقّى.
خامساً: الأحزاب السلفية. ورث السلفيون «الكتلة الإسلامية» التي كانت تنضوي بمعظمها تحت راية الإخوان. صحيح أن السلفيين قلّة نسبة إلى تنظيم الإخوان الذي بلغ ثمانيناته، ولكنهم أصبحوا «شبه وحيدين» كمتحدث أخير باسم الإسلام السياسي. وهذا خطر. فهؤلاء هم الأكثر اختراقاً من الأجهزة المختلفة.
سادساً: الجيش، فهذا الأخير استغلّ هذه الفرصة للدفع بالجيل الجديد من العسكر إلى الواجهة (يمثّلهم السيسي). وجدّدت سلطة العسكر شبابها، مع ترسيخ الاعتقاد بأنهم حُماة الأمّة. استغلّ الجيش الموجة لإعادة سلطته التامة على الحياة العامة، واستخدم ألعاباً ديموقراطية من نوع تظاهرة التفويض. بالطبع لن نطلب من العسكر أن يكونوا ديموقراطيين ولكن، ماذا عن الوجوه التي تقف إلى جانب الجيش والتي تدافع عن الديموقراطية؟ ألم يكن من الأفضل بدلاً من تظاهرة تفويض، أن يُجرى استفتاء مثلاً؟
سابعاً: حازم الببلاوي؟ والبرادعي؟ لم يكن ينقص إلا عمرو موسى! ربما طمأن هذا المآل أميركا التي دفعت بعربها (تعويم السعودية كزعيمة السنّة بدلاً من قطر) إلى تمويل «مصر الجديدة» لئلا تظهر مصر الجديدة فعلاً.. أمطرت دول الخليج مصر بملياراتها، كما كانت قطر قد أمطرتهم فور فوز مرسي، ورحّبت السعودية العائدة إلى تبوّء سدّة السلطة كوكيلة للولايات المتحدة الأميركية، بهزيمة إخوان قطر المستبعَدة والتي لعبت دوراً سيئاً للغاية أساء إلى مصالح رُعاتها.
هؤلاء هم المستفيدون. فمَن هم الخاسرون؟
الخاسر الأكبر هو شباب الثورة، وبشكل عام شباب مصر الجديد الذين بذلوا الأرواح ليجدوا أنفسهم بين يدي مَن يعرف كيف يتلاعب بهم. مصر التي لا تزال «تبرطع» في السياسة تاركة جبل المشاكل الاقتصادية والمعيشية وراءها.. وكما قال أحد البلغاء في لافتة: «شرعية إيه، والبيضة بجنيه؟».
بالنتيجة، كان «سوء التفاؤل» عنوان المرحلة التي لم تنته، والتي تبدو مأزقاً شاسعاً واسعاً وقعت فيه مصر بانقسامها الحاد إلى شارعين. ولن تنفع كل التطبيلات الإعلامية في إقناع الناس، جمهور الإخوان وتلك الفئة التي تراقب بقرف ما يحصل، وهي ليست بالضرورة من الأيديولوجيا نفسها، لن تنفع في إقناعهم بأن ما حصل كان ثورة.. ربما كانت استكمالاً لما حصل في 25 يناير لكنها ليست ثورة بعد. أو لنقل إنها بدايات ثورة حقيقية. لكننا معذورون في سوء تفاؤلنا لتعطّشنا، كعرب، إلى التغيير. وبما أن مصر هي أمّنا، كان الخير الذي أصابها ليصيبنا جميعاً، كما أن الشرّ حين يصيبها يعمّ على الجميع.
ومع ذلك.. «إيه في أمل».
فالثورة الفرنسية استغرقت مئتي عام لتصل إلى ما نعرفه عنها الآن. بالطبع، مع وسائل الاتصال الحديثة، فإن هذا سيسرّع سيرورة التاريخ، خاصة أن ما يبعث على التفاؤل حقاّ هو سرعة التعلُّم لدى الشعب المصري، فلا ننسى أنهم كانوا «جهلة» سياسة، بقوة القمع الذي كان يمارس عليهم لعشرات السنين (وهذه حال سوريا أيضاً).
أما بالنسبة لأشخاص يتحركون بحرية تفكير وحركة نسبية منذ ثلاث سنوات فقط، فإن القبعة تُرفع لهم حقاً، لكن القلب يخفق انتظاراً بقلق.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 8/2/2013 11:57:45 PM

وين "رابعاً" ؟؟

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 7/31/2013 2:31:22 AM

الثورة الفرنسية استغرقت مئتي عام لتصل إلى ما نعرفه عنها الآن في٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ فرنسا!!!!!! وهذا شيك فرنسي يستحيل صرفه في الدول العربية .!الثورة الفرنسية لم تهمل احد اهم مضلعات المشكل ومعضلاته بل قطت العرق وسيحت دمه. الأمر المستحيل قطعا في اي مكان يدين للأكليركيين بأي شكل ونحن لا ندين لأحد غيرهم! فكيف؟يمكن جواز المقارنة.تلك الثورة حجمت دور رجال الدين وحولتهم الى موظفين بعد ان صادرت اموال الكنيسة التي كانت الدولة تدين لها مالياً, ثم اين الفلاسفة ؟العرب المعاصرين المنظرين؟ ثم كم نابليون انتج العرب ؟اما زال عمرو موسى يطل من وراء الميكروفونات وال قرضاوي يفتي وهو الذي اعتبر وجود مكتب علاقات اسرائيلي في قطر امرا غير ضروري فهو على قوله مكتب صغيرٌ تافهٌ......بلاه !....الله الله .

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 7/31/2013 5:50:41 PM

معك حق. فقد سالت دماء الفرنسيين في هذه الثورة من الجهتين لمئات السنين قبل النجاح بفصل الدين عن الدولة...لكن لنقل انهم بداوا في مصر؟ قليل من التفاؤل لا يفسد لسوئه قضية

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

فيصل باشا/برلين فيصل باشا/برلين - 7/30/2013 11:45:49 PM

هذه التحركات اوالإرهاصات اوالثورات او التغيرات او ما شاء كل منا أن يسميها بالأسم الذي يشاء ،بأسم الربيع الذي يحصد شبابنا وبلداننا نتمنى أن لا يستمر مئتي عام حتى يحقق أهدافه مثل الثورة الفرنسية،ولكن الأمل الوحيد الظاهر حتى الآن ،أن الشعوب لم تعد ترضى أن تعود للوراء إلى أيام القمع والتميع والتسطيح للشعوب،فهذه أيام قد ولت وسوف تنتشر هذه الرياح لتعم كل المنطقة دون استثناء وهذا هو الأمل في التغير وكلنا أمل أن يكون على ايدي الشباب ولكن بدم اقل ،فليتركوا ما للوطن للوطن وما الله له وحده نسلم جميعاً.فأن تساءل أي إنسان لماذا كل هذه الجثث يستنتج من اجل لا شئ فالموت من أجل الموت هو ثورة بحد ذاته،ولكنها ليست من ثقافتنا ولا نريدها ،فالتغيرات يمكن أن تتم دون إراقة الدماء هذا أملنا.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم