خبر وجود التمساح في نهر بيروت ليس مستغرباً. وزارة الزراعة باتت أقرب الى التعامل مع هذا الخبر باعتباره صحيحاً. تقول مصادرها إنها لم تعثر بعد على دليل حاسم في الموقع، ولكنها تأخذ الخبر على محمل الجد في ضوء المعطيات عن وجود تجارة «تماسيح» رائجة في لبنان، على الرغم من تجريمها قانوناً. الوزارة المعنية أوفدت أمس مدير الثروة الحيوانية نبيه غوش الذي قام مع مساعديه بجولة على المواقع المحتملة لوجود التمساح. يقول غوش لـ«الأخبار» إنه لم ير شيئاً سوى «أن نسبة التلوّث الكيميائي والعضوي في مياه النهر مرتفعة جدّاً الى درجة تسمح بالشك في احتمال عيش أي كائن حي فيها. إلا أن هذه الحقيقة ليست كافية لنفي هذا الاحتمال كلّياً».
بلدية برج حمود استخفّت بالخبر واعتبرته غير صحيح، وقالت إنها أرسلت فريقاً منها للكشف على مصب النهر ضمن نطاقها. لكن وزارة الزراعة سارعت إلى التعاون مع جمعية «حيوانات لبنان»، وهي بصدد الإجازة لها بمصادرة التمساح (عند التقاطه) وترحيله الى محمية طبيعية. الجمعية بدأت استعداداتها فعلياً للقبض على التمساح. أعدّت فريقاً من الخبراء وما يلزمه من تجهيزات (قفص، زورق، مواد تخدير... إلخ)، ولم يبق سوى موافقة بلدية بيروت، وهي جاهزة أيضاً، وفق مصادرها.
إذاً، ليس في الخبر مزحة. ونهر بيروت بات اليوم أكثر خطراً على البيئة والسلامة العامة. مياهه الملوثة، أو ما تبقى منها بسبب تحول حوضه مصباً للصرف الصحي، تمثّل في رأي خبراء بيئة حاضنة لتماسيح أفريقية.
كانت «الأخبار» قد تلقّت منذ فترة معلومات من شاهد عيان عن وجود «التمساح» عند مصب نهر بيروت، وكانت تتريّث في نشر هذه المعلومات قبل التأكّد من صحّتها بحسب ما تقتضي الأصول المهنية. النتيجة قبل انتشار الخبر أن معلومات قوى الامن الداخلي لم تكن تتضمن أي بلاغ يشير الى وجود «التمساح». شمل الاستقصاء كلاً من العلاقات العامّة في مديرية قوى الامن الداخلي والطوارئ (112) وفصيلة النهر. كذلك لم يكن هناك أي معلومات لدى وزارتي البيئة والزراعة ولدى الجمعيات المعنية بالمحافظة على الحيوانات... إلا أن الشاهد أصرّ على روايته التي تفيد «أن المياه الضحلة الممزوجة بمياه الصرف الصحي، ونفايات عضوية وغير عضوية وأحشاء أبقار وخراف يرميها في مجرى النهر مسلخ الكرنتينا للحوم، شكلت لهذه الزواحف بيئة ملائمة للغذاء والعيش». شاهد «الأخبار» من عمال شركة سوكومي، وهو جزم بأن طول التمساح الذي رآه يصل الى 120 سنتم. وهناك زملاء له تحدّثوا عن وجود أكثر من تمساح واحد.
في الواقع، ليس خبر مشاهدة تمساح في نهر بيروت هو القصّة (سواء تم اصطياده أو لا). القصّة هي في مصدره. وزارة الزراعة تميل الى الاعتقاد بأن أحد الاشخاص اشترى تمساحاً صغيراً من السوق السوداء، لكنه تخلّص منه في النهر عندما بدأ يكبر وبات يشكل عبئاً عليه أو مصدر خطر. لكن مصادر أخرى تشير الى وجود متاجر علنية تعرض التماسيح للبيع، ومنها متجر الحيوانات «petmart» الأقرب الى موقع مشاهدة التمساح في نهر بيروت، وهو واحد من أشهر المتاجرين بالحيوانات البرية المهددة بالانقراض، ومن أشهر ضحاياه الشيمبانزي «تشارلي» الذي يقبع حالياً في حديقة حيوانات في نهر الكلب بعد أن عجز القضاء اللبناني عن إصدار قرار يجيز ترحيله الى محمية طبيعية في أوروبا. تفيد الرواية أن أحد العاملين في المتجر غسل حوضاً للمياه يحتوي على عدد من التماسيح الصغيرة، داخل الحدود الأسمنتية لنهر بيروت، ما أدى إلى فقدانه عدداً منها، وذلك بحسب المصدر. لكن صاحب المتجر ينفي ذلك، ويجزم بأنه لا علاقة له من قريب أو بعيد بمسأله ظهور تماسيح في نهر. فبحسب قوله، هو لم يستورد التماسيح طيلة حياته. لكن روايته تتناقض مع رواية العاملة في المحل (وهي أجنبية) التي أكدت لـ«الأخبار» أن التماسيح التي كانت في المحل قد بيعت بالكامل، وأن الطلبية الجديدة تصل الشهر المقبل.
ولدى سؤال صاحب المحل (ط.خ.) عن كيفية وجود تماسيح للبيع في السوق، بدا عالماً بالموضوع، حيث أفاد أنه يجري تهريبها عبر الحدود اللبنانية السورية بطرق متعددة. فمنهم من يعتمدون تهريبها داخل خزانات مياه الحافلات السياحية، وآخرون يستعملون غالونات مياه الشرب للغرض نفسه، والبعض يهرّبون التماسيح داخل جيوب سراويلهم. فتمساح صغير بطول عشر سنتمترات يمكن السيطرة عليه داخل الجيب بسهوله، بعد أن يُلفَ فمه بشريط لاصق.
رئيس مصلحة مراقبة الاستيراد والتصدير والحجر الصحي البيطري في وزارة الزراعة عبيده مدور أكد أن أياً من اللبنانيين لم يستورد بصورة شرعية أياً من أنواع التماسيح طيلة الخمسة والثلاثين عاماً الماضية. ونوّه بأن لبنان هو البلد الـ177 الذي وقّع أخيراً على اتفاقية التجارة الدولية بالأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات البرية «سايتس». وتهدف الاتفاقية إلى تنظيم المتاجرة بالنباتات والحيوانات، سواء أكانت على قيد الحياة أم نافقة، وكذلك منتجاتها (الغذائية والجلدية والطبية والعلاجية، والعاج، والآلات الموسيقية والهدايا والنصب التذكارية). وتغطي اتفاقية «سايتس» نحو 5 آلاف جنس من الحيوان و25 جنساً من النبات. وتعدّ التماسيح واحداً من تلك الأصناف المهددة بخطر الانقراض. ويؤكد الدكتور عبيده أن لا تماسيح دخلت لبنان عبر الممرات الشرعية للبلاد. فجهاز الجمارك والمراقبون من قبل وزارة الزراعة شركاء الواجب مع آخرين مرتبطين بسكرتيريا اتفاقية سايتس في جنيف، وهم جميعاً يعملون على مراقبة كافة عمليات الاستيراد والتصدير.
لا ينكر عبيده وجود تماسيح صغيرة للبيع في لبنان، ويعزي ذلك إلى العديد من عمليات التهريب البرية على طول الحدود اللبنانية السورية، التي لا يمكن ضبطها وتطويق مناطق الخلل فيها، إلا من خلال لجنة وطنية تشترك فيها مجموعة إدارات رسمية ووزارات، كوزارة الزراعة، والبيئة، والاقتصاد، والداخلية والبلديات. وبحسب عبيده، فإن التماسيح إذا ما وجدت في لبنان يمكن لها أن تتكاثر، فهي من فصيلة الدم البارد، أي تتأقلم مع محيطها بكل تفاصيله، ولا تشكل برودة الطقس عقبة أمامها للاستمرارية والحياة. أما عقوبة استيراد هذه الأصناف من الضواري أو تهريبها، فخاضعة لقانون العقوبات اللبناني، فيما يعاد التمساح إلى مصدره إذا أمكن أو يخضع للقتل الرحيم.
إنها قصّة أخرى من قصص الفوضى القاتلة في هذا البلد. تماسيح لبنان كثيرة ما دام القانون لا يطبّق على من يحظون بالحماية من السلطات. وما لم يتغيّر هذا الواقع، فلا غرابة في أن تغزو التماسيح وأنواع كثيرة من الكواسر البيوت وليس الأنهر فقط.