«يا نايم وحّد الدايم». هذه العبارة التي يردّدها المسحراتي طوال ليالي شهر رمضان لإيقاظ النائمين من أجل تناول سحورهم، لها في طرابلس تاريخٌ خاص وطعمٌ آخر، في مدينة تنقلب فيها الأمور رأساً على عقب في رمضان، ويتحوّل ليلها إلى نهار. قلة قليلة من أبناء طرابلس إذا سئلت عن اسم رضوان عثمان تجيب بأنها تعرفه، لكن المدينة تعرف «أبو طلال»، المسحراتي الطرابلسي الغني عن التعريف، والذي يحرص كثيرون على أن يكون حاضراً بينهم في المناسبات الاجتماعية، من أفراح ومآتم واحتفالات المولد وسهرات رمضان وغيرها.

عندما كان لا يزال فتى يافعاً لا يتجاوز عمره 14 ربيعاً، كان رضوان يرافق والده في عمله مسحراتياً في المدينة، ووالده ورث المهنة بدوره عن جدّه، ما جعل مهنة المسحراتي هذه إرثاً وتراثاً بالنسبة له، أكثر من كونها مصدراً للعيش، عدا أنها أكسبت أبو طلال شهرة واسعة، ولذلك يحرص على توريثها لابنيه طلال وطارق وهو يقترب من عمر 72 عاماً، أمضى منها 58 عاماً مسحراتياً في طرابلس بلا انقطاع.
يوضح أبو طلال، وهو يجلس على كرسي أمام مكتب صغير له قرب المسجد المنصوري الكبير في وسط المدينة القديمة، أن جدّه عندما بدأ العمل مسحراتياً في طرابلس، حصل على فرمان عثماني كي يسمح له بالعمل، وكان يرافقه أثناء تجواله في شوارع وأزقة المدينة نواطير وحراس لكي يحمونه من المشاغبين والزعران، بهدف تأديته واجبه على أكمل وجه.
هنا يتوقف أبو طلال عند أن مهنة المسحراتي «كانت منظمة أيام العثمانيين بشكل أفضل ممّا هي عليه اليوم؛ فنحن حالياً نعمل بهذا المجال انطلاقاً من كوننا ورثة من كانوا يعملون به، بلا أي تصريح من أي جهة رسمية أو فرمان، إذ لا تتدخل في عمل المسحراتي لا البلدية ولا دار الفتوى، ما سمح لكثير من الدخلاء بممارسة هذه المهنة والإساءة إليها».
ويلفت أبو طلال إلى أنه إلى جانب والده وجدّه، كان هناك مسحراتيون موزعون على أحياء طرابلس، مثل توفيق القدوسي وعشير مغربل وسعيد غندور ومحمد الزاهد وغيرهم، وأنه كما والده وجده، يقوم بعمله في مناطق وشوارع محددة كالميناء، المعرض، عزمي، المنلا والثقافة، برفقة بعض الأشخاص في السابق والآن مع ولديه.
عند الواحدة بعد منتصف الليل يبدأ أبو طلال عمله، ويستمر به حتى قبل إطلاق مدفع الإمساك بنحو نصف ساعة تقريباً، بعد أن يكون قد طاف كل المناطق المذكورة، إما مشياً أحياناً أو في السيارة أحياناً أخر، معتمراً طربوشه الأحمر مع طبلته التي يقرع عليها، منادياً على كل شخص باسمه بعد أن يتوقف تحت منزله لهذه الغاية للحظات، إذ يكاد أبو طلال الذي أصبح «ذاكرة» المدينة، يعرف كل شخص باسمه ولقبه وأين يسكن مع عائلته في المدينة.
في الأيام الأواخر من شهر رمضان، يُدعى أبو طلال لإقامة سهرات الوداع في منازل كبار العائلات الطرابلسية، أو في مطاعم وفنادق، حيث ينشد الأناشيد الدينية مع فرقة خاصة يستعين بها لهذه الغاية.
يتذكر أبو طلال طرفة حصلت معه في هذا المجال. فخلال سهرة رمضانية كانت تقام في منتجع بالما السياحي في المدينة بحضور رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي، صعد أبو طلال إلى المسرح وأبعد عنه مطربة كانت تغني وهو ينهرها: «روحي من هون، هلق إيجا دورنا»، ما جعل الحاضرين يضحكون لتصرفه، ويمضون معه سهرة أناشيد وتواشيح امتدت حتى الصباح.
في مقابل ذلك، يروي أبو طلال قصصاً تكشف تعرّضه لاعتداءات كادت في إحدى المرات ان تودي بحياته.
خلال سنوات الحرب الأهلية، وبينما كان أبو طلال يجول ليلاً منادياً الناس إلى السحور، سقطت قذيفة قرب قصر حلويات عبد الرحمن الحلاب حيث كان واقفاً، وأدى انفجارها إلى تمزيق سترته والطبل، بعدما أصيب بجروح طفيفة.
وفي فترة الحرب الأهلية أيضاً، تعرّض له مسلحون ملثمون في شارع عزمي فيما كان نازلاً من إحدى بناياته، إثر جمعه «معلوم» وداع رمضان من المواطنين في نطاق عمله كمسحراتي، حيث اعتدوا عليه وسلبوا الغلة وهربوا.
اليوم يشكو أبو طلال من أمرين يزعجانه في عمله، الأول أن بعض الشبان ممن يتجولون ليلاً على دراجات نارية يلاحقونه ويشوشون عليه؛ والثاني أن أشخاصاً آخرين يسبقونه، ورمضان لا يزال في بدايته، إلى بيوت المواطنين، والتعريف بأنفسهم أنهم من قبل أبو طلال، فيقبضون منهم «المعلوم» بدلاً منه، ما يوقعه بإحراج مع هؤلاء المواطنين أنفسهم عندما يأتيهم عادة في الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان لهذه الغاية.
هل ينوي ترك المهنة بعد هذا العمر الطويل؟ «إنها وصية الوالد لنا أن نحافظ عليها، وحرام أن نتركها بعدما أصبحت تراثاً لنا، ولذلك أوصي أبنائي بالحفاظ عليها»، يرد أبو طلال موضحاً.