مخيم اليرموك | لم يبقَ من سكان جنوب العاصمة إلا ربعهم تقريباً، رفضوا النزوح، إمّا لعدم مأوى لهم خارج مناطقهم، أو أنهم حاضنة اجتماعية للمعارضة المسلحة التي تفرض سيطرتها على أحيائهم. هذا ما تبدو عليه حال مخيم اليرموك اليوم (جنوب دمشق)، فالأخبار القادمة من هناك تشير إلى أن عدد السكان الحالي يصل إلى مئة ألف نسمة تقريباً. وقبل أن يصل الصراع المسلح إلى المخيم، كانت المنطقة تغص بأكثر من مليون نسمة يشكل منها الفلسطينيون السوريون حوالى عشرين بالمئة.ناشطون قالوا لـ«الأخبار» إن «الأمور المعيشية لمن بقي في المناطق الجنوبية عموماً تزداد سوءاً منذ أكثر من ستة أشهر، فحصار المناطق الجنوبية مستمر حتى اليوم، إضافة إلى منع دخول كل المواد التموينية والوقود وقطع الكهرباء وشبكات الاتصال».
رغم ذلك، ثمة حياة تُعاش في الداخل لمن بقي. على الأطراف لا يمكن أن يمر أحد، فقناصات المعارضة بالمرصاد. يمكن الدخول والخروج عبر حاجز الجيش السوري فقط على مدخل مخيم اليرموك. وعليه، فإن تسرّب الطعام والاحتياجات الغذائية يعاني من الاحتكار، «ربطة الخبز بـ 175 ليرة سورية، وكيلو الحليب الجاف للأطفال بألف ليرة، ليتر البنزين بـ 120 ليرة، ليتر المازوت بـ 150 ليرة، والكهرباء كلها على المولدات»، يروي غياث عمايري، أحد سكان المخيم.
مؤسسات إغاثية مثل «بصمة» و«سوا» و«الهلال الأحمر السوري» هي من أنشط العاملين على الأرض في مجال المساعدة في الوضع الغذائي والطبي والتعليمي، فلا قدرة للمسلحين على رعاية المدنيين، في ظل غياب مؤسسات للدولة. «كل سوريا مو بس عنّا في حالة تململ وشعور باليأس من الحالة يلّي وصلتلها البلد، وأغلب الناس صارت تتمنى انتهاء الأزمة، وجزء كبير من الناس اليوم مهتم بلقمة عيشه وكيفية تأمين رغيف الخبز، حتى الأخبار ما عاد الناس مهتمين بشوفتها إما لأنو ما في كهرباء أصلاً أو لأنو الناس يئست من حصول تغيير مفاجئ»، يؤكد حسن كمال، أحد الناشطين في مجال الإغاثة. بينما يقول البعض «إن حاجز مخيم اليرموك من أقسى الحواجز في المنطقة لأنه يمنع دخول أكثر من ربطة خبز لكل عائلة، هنالك تدقيق للمصدر حتى لا تصل إلى المسلحين».
حالة حصار خانق يعيشها الجنوب الدمشقي، وأبرزها في مخيم اليرموك وشارع الـ 30، وصولاً إلى حيّ التقدم، وهذا الأخير لا أخبار دقيقة عنه اليوم، لأنه الأعمق في قوس الجنوب الجغرافي ومن أكثر المناطق ازدحاماً بالسكان. لقد غاب أهله اليوم لتسرح الفوضى والسرقات في كل البيوت مثله مثل ببيلا والقدم والحجر الأسود وجوبر، والكثير من المناطق الساخنة. أي مكان خال من السلطة يتعرض لحوادث سرقة، الحصار والفقر الشديد دفعا الناس إلى السرقة لكي تعيش، بالإضافة إلى أن جزءاً من المسلحين قاموا بسرقات»، يؤكد أبو عهد القاطن في منطقة الزاهرة القديمة المحاذية للمخيم.
لا تبحث عن طريقة للعبور إلى حيث يوجد تفسير للموت خلف خطوط النار، تتعدد السلطات هنا، وخط الفقر في ارتفاع حتى تلاشى الفقراء، فأهل المخيمات وسكان الشوارع التي تعيش شتاتاً يومياً علّمتهم التجارب أن العمل السياسي لا يكتمل بقوة السلاح. ففي أيار 2012 شيع آلاف الناس من مخيم اليرموك شهداء ذكرى النكبة الذين استهدفتهم قوات الاحتلال الإسرائيلية، ولم يكن ثمة بوادر لدخول المنطقة في خريطة الأزمة السورية، لكن موقعها الجغرافي الذي يشكّل ثلث العمود الفقري لجنوب العاصمة جعلها في الجحيم، حيث بقي عناصر «الجيش الحر» في المناطق المحيطة بالمخيم يحاولون العبور إلى داخله، فتزامن دخولهم مع حركة النزوح الكبيرة في منتصف شهر كانون الأول الفائت بعد القصف الشهير لجامع عبد القادر الحسيني، عندما علم الجيش السوري بأن عدداً كبيراً من عناصر المعارضة المسلحة أصبحوا في المخيم ويستعدون للسيطرة عليه.
يعرف عن مخيم اليرموك في السابق أنه كان يحوي شارعاً ضخماً تنتشر على طرفيه محال تجارية منوعة بكثافة، ومكاتب تجارية وعيادات طبية ومنافذ بيع لمختلف أنواع البضائع، وخصوصاً في شارع «لوبيا» كان الناس يقبلون عليه من مختلف مناطق دمشق. أضف إلى أنه كان قِبلة المهجرين طيلة السنتين الماضيتين من كل سوريا، «لا أحد يسأل الأهل إن كانوا يريدون ثورة أو لا! شخصياً لم أكن أرغب إلا ببعض الوقت لأموت بهدوء. لم أعرف أن كل هذا الحقد ينتظرنا خلف الرصاص والعنصرية»، بشيء من الغصة، يروي أبو ماهر، الفلسطيني النازح من حيّ التقدم إلى مخيم اليرموك، وصولاً إلى أحد مراكز الإيواء. يشاهد الرجل عبر الإنترنت صورة حديثة لآخر منزل استأجره، وتحديداً في شارع حيفا. يشير إليه ويقول: «يا ريت ما شفت هالصور رح موت قهر عشان أرجع لهناك متل ما كنّا». يبدو على الشارع تحطم زجاج نوافذ البيوت وتحطم بعض الأبنية العالية جراء الشظايا.
سوف تمنعك السواتر الرملية على مفارق الجنوب الناري من الحركة، لتقفز كل ساعة من شوارع الزاهرة القديمة، تطل نحو حاجز المخيم وتتأكد من أن ما يسمع فعلاً هو صوت رصاص لا احتفال بتشييع أحد الشهداء أو زفة عرس! إذ لا يمكن استغراب حدوث عرس في هذه الظروف، وخصوصاً في مناطق عانى أهلها تشرداً مستمراً. «حياة المخيمات تعلم مقاومة الحرب، معظم شوارع المخيم والبيوت لا تزال على حالها، بس فاضية، حالة الدمار أقل بكثير من باقي المناطق مثل يلدا والحجر الأسود»، يؤكد أبو نورس (بائع دخان) الذي يتنقل داخل المخيم وخارجه. هكذا، قد تأتي الآمال على هيئة احتفال بالبقاء ورحى الاشتباكات تدور وتشتد.
أروى عمرين، الممثلة الشابة التي ولدت في المخيم ونزحت في ما بعد إلى بيروت مع أسرتها، بهذه الكلمات تذكر «يرموكها»: «حارات مليانة، ولاد عم يلعبوا ونسوان بكياس خضرة راجعين من سوق فلسطين، وزعران عالسكة وصبايا الثانوية ورجال رايحين 7 الصبح على شغلن وشمس معبّية الأساطيح... والقضية معبّية راس هالولاد وهالنسوان والزعران والرجال حتى الأساطيح وأنا بنته... وبنت هالقضية». ربما ذنب مخيم اليرموك الوحيد أنه أراد أن يكون للجميع. فتح ذراعيه للموت من دون أن يقصد، ولسان حال الناس في عمق حاراته المتبقية يرددون كل يوم «في هدنة...؟ إيمتى رح تجي الكهرباء؟ إيمتى رح تخلص؟». ولا إجابة.