احتضار الصناعة في لبنان ليس خبراً مفاجئاً. بيئة الأعمال التي يتغنّى بها راسمو السياسات الاقتصادية هي بيئة معادية للصناعة. هذا بات معروفاً؛ إذ لا يمكن تصوّر قطاع صناعي مزدهر في ظلّ الاتكال المبالغ به على تصدير العمالة الماهرة والاستفادة من تحويلاتها المالية، وجذب نوعية معيّنة من السياح وأموالهم «النفطية»، وتشجيع المضاربات العقارية التي تُثقل كاهل الإنتاج وتؤذيه... في ظل ذلك، لم يعد هناك مكان واضح للصناعة في هوية لبنان الاقتصادية، بل بات التعامل مع القطاع الصناعي باعتباره نتوءاً يجب تذويبه وتفكيكه، ما دام يرتّب مسؤوليات سياسية مجهدة.
هكذا قضت مئات المصانع نحبها واندثرت قطاعات بكاملها مثل صناعة السيراميك والأحذية والألبسة... أما البقية، فهي تنتظر مصيراً مماثلاً كالذي ينتظره مصنع «سوليفر»، بوصفه آخر مصنع للزجاج في لبنان.
مصنع «سوليفر» على موعد مع الإقفال. كانت خطّة آل قدورة، الذين يملكون المصنع، تقضي بوقف الفرن عن العمل بين عامي 2015 و2016، لكن العرض الذي تلقوه لبيع قطعة الأرض التي يقوم عليها المصنع لا يمكن رفضه. فقد وقّعوا مع شركة الفطيم الإماراتية تفاهماً بالأحرف الأولى على بيع العقار بقيمة 300 مليون دولار. نيات الفطيم واضحة تجاه هذه العملية، فهو يرغب في إنشاء «مولاً» ضخم على قطعة الأرض هذه التي تربط الجنوب بالعاصمة والجبل بالساحل في منطقة خلدة على مشارف بلدة عرمون.
بهذه البساطة تموت الصناعة على حساب تعزيز مفاهيم الاستهلاك. ولعل راسمي السياسات لا يريدون للبنان إلا ثقافة الاستهلاك. هذا أخطر تحوّل يشهده اقتصاد لبنان واجتماعه.
قبل هذا التفاهم على البيع، لم تكن الخيارات واضحة أمام مالكي المصنع، فهم أعدّوا خطّة للإقفال، ولكنهم رأوا أن تسريب الخطّة سيكون بمثابة صرخة أخيرة يطلقونها قبل بدء تصفية المعمل وصرف عماله الـ300 ووضعهم كالكثير من العمّال غيرهم في مواجهة المستقبل الأسود. إلا أن الصرخة أتت بزبون يريد اكتساب العقار لا اكتساب المصنع وخبرته الطويلة في صناعة الزجاج، وحجّة آل قدورة للبيع تعتمد المثل القائل «ما متت وما شفت مين مات». فمعاناة مصنع «يونيسراميك» التي امتدت لسنوات انتهت بهجرة المصنع إلى مصر والجزائر من دون أن يرفّ جفن وزير الاقتصاد يومها سامي حداد، بعده هاجر مصنع «المستقبل» للأنابيب، ثم أقفل مصنع «كادبوري آدمز» قبل شهر ولاذ بالفرار إلى مصر. هروبه لم يكن خوفاً من السوق ومن المنافسة الطاحنة الدائرة هنا، بل كان عبارة عن قرار اقتصادي يتعلق بخفض أكلافه. هذه عيّنة بسيطة من المصانع المهاجرة، أو تلك التي سجّلت اسمها على لائحة المحتضرين.
اللافت في مجال صناعة الزجاج تحديداً، أن «سوليفر» لم يكن المنتج الوحيد في ميدان صناعة الزجاج؛ فقبله كان هناك مصنع «ماليبان» الذي انتكس بعد حرب تموز. إدارته الهندية قرّرت الانتقال إلى مصر على وقع ضربتين تلقاها استثمارهم في لبنان: الأولى متصلة بارتفاع كلفة الإنتاج، والثانية متعلقة بما طاوله من قصف إسرائيلي أثناء عدوان تموز 2006 وما تبعه من تخلٍّ للدولة عن مساعدته.
لم يكن قدر «سوليفر» أن يحصد زبائن «ماليبان» وأن يستمتع باحتكار إنتاج الزجاج في السوق المحلية، بل ساقته السياسات الاقتصادية المتواصلة منذ عقود نحو مصير آخر محتوم. إغلاق منافسه الوحيد لم يجنبه أعباء «منافسة غير متكافئة مع التجّار الذين يستوردون الزجاج من مصر ليباع في السوق المحلية بأسعار أرخص من أسعارنا بنسبة 30%»، يقول أحد مالكي المصنع عمر عزّت قدورة. السبب واضح ومعروف للجميع: «تمثّل الطاقة 35% من إنتاجنا، وقد أكلت كل أرباحنا. إن كلفة الإنتاج في مصر زهيدة إلى درجة أن الإنتاج وكلفة التصدير والنقل والرسوم التي تدفعها تبقي أسعارها أقل بـ30% من أسعارنا».
اللافت أن معمل «سوليفر» يعمل بطاقته القصوى، وكل إنتاجه يُباع في السوق المحلية، لكن المنافسة، بحسب مالكي المصنع، تدفعه إلى تحقيق عائد بسيط على استثماراته لا تتجاوز 1%، فيما يفترض أن تكون بمعدل يراوح بين 10% و13%.
إذاً، يعمل المصنع بكل قدرته الإنتاجية ويبيع كل إنتاجه ولا يحقق عوائد تذكر على استثماره! هذا الوضع مشابه إلى حدّ التطابق مع واقع مصنع «يونيسيراميك»؛ لأن كليهما يعمل بالطريقة نفسها، أي من خلال تشغيل أفران كبيرة تستهلك الفيول والغاز والكهرباء، ولا يمكن إطفاؤها طوال عمر المعمل، وبالتالي يجب أن تعمل 24 ساعة لمدة تصل إلى 6 سنوات، وإلا خسر المصنع رأس ماله، وهو يحتاج إلى هذه الفترة لاسترداد رأس المال وتغطية كلفة التشغيل وتحقيق أرباح أيضاً. إن العائد على رأس المال في مصنع «سوليفر» يعادل 450 ألف دولار سنوياً، وهو مبلغ زهيد قياساً برأس المال البالغ 45 مليون دولار، وهو عائد أقل من متوسط الفائدة على الودائع بنحو 4 نقاط مئوية كحدّ أدنى... وبالتالي «يُعَدّ هذا الاستثمار خاسراً لأنه بعد مرور 5 أو 6 سنوات علينا أن نستثمر في المصنع مبلغاً إضافياً لتجديد الأفران بقيمة تصل إلى 7 ملايين دولار»، بحسب عمر قدّورة.
إدارة مصنع «سوليفر» استثمرت في تكنولوجيا الإنتاج لتتمكن من إنتاج قوراير وبرطمانات زجاج بوزن أقل بنحو 15% بجودة مرتفعة، لكنها توفّر استعمال مواد أولية، وهي تقدّم تسهيلات للزبائن لسداد فواتيرهم وتسهيلات في خزن البضائع تحت الطلب، وتوفّر عليهم فتح أي اعتماد مصرفي بهذا الشأن... تستعمل إدارة المصنع كل هذه الحوافز لمنافسة الإنتاج المصري والكويتي والتركي، ويقول قدورة: «لقد فعلنا كل ما بوسعنا من أجل خفض كلفتنا، وهذا أقصى ما نستطيع بلوغه، لكننا لم نتمكن من زيادة العائد على الاستثمار وتحقيق أرباح». ويضيف قدّورة أنه «لولا الوضع الإقليمي لما لُجِم الضغط الذي كنا نتعرض له من المنافسين الخارجيين، سواء في مصر أو الكويت، إذ إن طرق التصدير باتت صعبة ومكلفة أكثر بعد الأزمة في سوريا».
لكن ما دليل «سوليفر» على أن الصناعة الأجنبية تدق عنقه وتقلل أرباحه من السوق المحلية؟ الإجابة تأتي في الشكوى التي قدّمتها الشركة لوزارة الاقتصاد عن تزايد واردات الزجاج إلى لبنان. تقول الشكوى إن مصنع سوليفر ينتج قوارير وبرطمانات زجاجية لون أبيض شفاف يستخدم في تصنيعها مواد أولية محلية كالرمل والكلس ومواد مستوردة، وأن المنتج النهائي يستخدم لتعبئة المواد الغذائية والمشروبات على أنواعها بما فيها العصائر والمياه. أحجام هذا المنتج تراوح بين 105 ملل وثلاثة ليترات. وتشير الشركة إلى أن حجم الواردات قد زاد خلال عام 2012 بصورة مطلقة بنسبة 78% مقارنة مع عام 2009، وأن الواردات زادت قياساً إلى الإنتاج المحلي بنسبة 68%، ما سبب ضرراً بالغاً يستوجب اتخاذ إجراء حمائي ضدّه أدّى إلى انخفاض المبيعات وانخفاض حصّة الصناعة المحلية من السوق المحلية.
هذا الإنذار، سبق أن وجّهه مصنع يونيسيراميك، لكنه لم يلق آذاناً صاغية، وانتهت معركته بالهجرة. في حين أن صمم الآذان في حالة «سوليفر» عجّل بتحويل المصنع إلى مجرد صفقة عقارية مربحة. إنه موسم الهجرة من الصناعة إلى الـ«مول».

إنتاج وتصريف بلا جدوى!



تستهلك أفران «سوليفر» يومياً نحو 20 ألف ليتر فيول وطن ونصف طن من الغاز. وتبلغ كلفة استهلاك المازوت للمولدات الخاصة ما بين 9 آلاف ليتر و12 ألف ليتر. أفران سوليفر تحتاج إلى استهلاك نوعيات معيّنة من الرمل الذي يستخرج من الأراضي اللبنانية في الشمال والبقاع، وبالتالي فهي تحتاج إلى ترخيص إقامة مقالع. لكن اللافت في إنتاج الزجاج لدى «سوليفر» أنه يستعمل في طبخته 17% من كسر الزجاج فقط، وهي نسبة متدنية يمكنها أن تكون أعلى بكثير، «لكن هذه الكمية هي التي نحصل عليها وغالبيتها من الزجاج الذي ينتج من المصنع ويتبيّن من فحوصات الجودة التي نجريها أنه غير صالح للاستعمال»، بحسب مدير الإنتاج في المصنع. ويلفت إلى أن استعمال الزجاج الكسر هو أفضل بالنسبة إلى هذه الصناعة، وهو أفضل بيئياً ضمن إعادة تدوير الزجاج؛ «لأن سرعة ذوبانه أعلى»، علماً بأن المصنع ينتج نحو 700 ألف قنينة كمتوسط يومي (تختلف القدرة الإنتاجية بحسب النوع والوزن والشكل؛ إذ إن المصنع ينتج 45 نوعاً).
ليس لدى إدارة المصنع أي مشاكل في تصريف الإنتاج في السوق المحلية، لكن أسعار المنتجات تُفرض عليها من قبل الزبائن الذين يبتزونها ويهددون باللجوء إلى شراء منتجات الصناعة المصرية الأرخص، رغم أنها ليس بالجودة نفسها، بل هناك «كسر» كبير فيها. غير أنه بحسب ما يتداول في السوق، فإن المصانع المصرية تعرض على الزبائن منحهم بدل كل قنينة زجاج مكسورة 10 قنانٍ مجاناً لتغطية أكلاف التعطيل والتصدير وسواها... إلا أن بعض المصانع الكبيرة في لبنان لا يمكنها تحمّل توقيف آلاتها بسبب زجاج مكسور، ما أسهم في تصريف إنتاج «سوليفر».
وتيرة تصريف المنتجات لم تتح أي فرصة أمام نموّ هذا المصنع وتوسيع خطوط الإنتاج فيه. في الواقع، إن تصريف كل إنتاجه كان يفترض أن يخلق هامشاً أكبر من الربحية يمكّن المصنع من مجاراة السوق التي تنمو بوتيرة قوية، لكن ما حصل هو العكس تماماً؛ إذ كانت حصّة منتجاته في السوق المحلية تنخفض تزامناً مع نمو هذه السوق وتوسّعها.


من يبقى ومن يهاجر؟



لن يكون إغلاق مصنع «سوليفر» سهلاً على بعض المصانع اللبنانية. الوضع الجديد سيترك أثراً واضحاً في السوق، نظراً إلى كون «سوليفر» المصنع الوحيد في لبنان لصناعة القوارير والبرطمانات الزجاجية. من هم المستفيدون من هذه الصناعة؟ وكيف سيتأثّرون؟
المعروف في السوق المحلية أن زبائن «سوليفر» هم مصانع الغذاء التي تنتج أنواعاً مختلفة من المربيات والعصائر والكبيس ورب البندورة وبعض أنواع الخلطات للمأكولات. مصانع العصير والمشروبات تبيع غالبية إنتاجها في لبنان، أما مصانع الغذاء فهي تبيع أكثر من 60% من منتجاتها في الخارج. هل تعني هذه المعادلة أن مرحلة ما بعد إغلاق «سوليفر» هي المرحلة التي تدفع مصانع الغذاء إلى الانتقال إلى خارج لبنان؟
هذا السؤال مشروع في ضوء ما هو معروف عن العلاقة العضوية بين صناعة الغذاء وصناعة الزجاج. الحاجة هي التي تجمع بين الطرفين، وبانتفائها يصبح فك الارتباط بينهما أمراً أكثر احتمالاً؛ ليس مصنع «سوليفر» هو المورّد الوحيد للقوارير والبرطمانات الزجاجية في المنطقة، ولكنه المورّد المحلّي الوحيد. هذا يعني أن المصانع التي قرّرت استيراد حاجاتها من الخارج كان هدفها الحصول على أسعار أقلّ، وعلى جودة مماثلة أو أفضل من تلك التي يقدّمها «سوليفر»، وعلى قدرة تحكّم أكبر في الشكل الذي تريد إنتاجه. وبالتالي، فعلى الرغم من سلوك بعض المصانع ــ الزبائن مسار الاعتماد على الاستيراد لتلبية حاجاتها، استمرّت بعض المصانع في الاعتماد على «سوليفر» كمورّد أساسي لها، وهؤلاء هم الذين سيبحثون عن خيارات أخرى لتلبية حاجاتهم الصناعية. إغلاق «سوليفر» سيدفع بعض هؤلاء إلى وقف النمط السابق. وبما أن غالبية منتجاتهم تباع في الخارج، فالأجدى لهم في هذه الحالة نقل مصانعهم إلى الخارج ليعالجوا عنصرين أساسيين: العنصر الأول يتعلق بجدوى استيراد الزجاج من الخارج، «فالأجدى والأربح للمصانع أن تنقل مصانعها إلى الخارج بديلاً من آلية استيراد الزجاج وتعبئته في لبنان ثم إعادة تصديره إلى الأسواق الخارجية. ولذا، الأفضل لبعضها نقل مركزية الانتاج إلى مناطق قريبة من أسواق الاستهلاك الأساسية في دول الخليج»، تقول مصادر صناعية، علماً بأن هذه المصادر تقرّ بأن هذه الفرضية ليست حتمية، إذ إن بعض المصانع عمدت خلال السنوات الماضية إلى استيراد حاجاتها من الخارج بسبب مشاكل مع «سوليفر» «الذي حاول أن يتصرّف كمحتكر في السوق ليزيد الأسعار ويحدّد الأشكال الزجاجية، ما أدّى إلى خسارته الكثير من الصانعين.
وبين ادّعاءات «سوليفر» عن ابتزاز يتعرّض له من الزبائن، وبين ادّعاءات الزبائن عن احتكار يتعرّضون له من «سوليفر»، ازدادت وتيرة استيراد القوارير والبرطمانات الزجاجية إلى لبنان بنسبة 80% من 75 مليون قارورة وبرطمان في 2009 إلى 165 مليوناً في 2012. هذه الكميات تأتي من الكويت بنسبة 37%، ومن مصر بنسبة 38%، لكن في عام 2013 بدأت تركيا تصبح مصدراً أساسياً للواردات.
أما العنصر الثاني، فهو يتعلق بالتخلّص من كلفة الطاقة والانتاج المرتفعة في لبنان، إذ إن نقل المصانع إلى بلدان تبيع الطاقة للمصانع أرخص بعشرات المرات مما هي عليه أسعار الطاقة في لبنان سيحسّن قدرتهم التنافسية.