تلكلخ | العديد من السوريين لم يُعجَبوا بمبادرة المصالحة الوطنية التي أثمرت وقف القتال في مدينة تلكلخ الواقعة في منتصف الطريق بين حمص وطرطوس. فتلكلخ كانت أولى مدن التمرد المسلح، وثاني مدينة «محررة» تسقط عسكرياً وتعود إلى سيطرة الدولة بعد مدينة القصير، التي أرخت معاركها بظلالها على الواقع العسكري الصعب للمعارضة السورية. لم تعنِ المصالحة شيئاً لبعض أهالي شهداء الجيش السوري الذين خطفوا وقضوا على مشارف المدينة، خلال أيام حصارها. ومساعي محافظة حمص في التشبيك الاجتماعي ليست خبراً مفرحاً بالنسبة إليهم، أسوةً بالكثير من الأصوات السياسية والحزبية في دمشق التي اعترضت على مهادنة المسلحين أو العفو عنهم. وفي المقابل، أثنى سوريون آخرون، بعضهم من عائلات الشهداء أيضاً، على مساعي محافظ حمص التي «ترمي إلى حقن ما تبقى من الدم السوري ووقف النزف والدمار»، فيما اعترضت الأصوات المهاجمة لمحافظة حمص على إعلان المصالحة مع المسلحين المتورطين بدماء شهداء سوريين، ولا سيما بعد ظهور عدد منهم في تسجيلات مصوّرة يهينون فيها عناصر من الجيش السوري قبل قتلهم. قائد كتيبة شهداء تلكلخ التابعة «للجيش الحر»، عبد الرحمن ولو، يقيم بسلام داخل أحد بيوت المدينة تحت حراسة الجيش السوري. مشهد مصافحته محافظ حمص جاء كالصاعقة على كثير من أهالي المدينة، إذ كان قد انتشر تسجيل مصور يظهر فيه واقفاً على جثة مشوّهة لشرطي في قلعة الحصن. لا يمكن الوصول إلى «ولو»، المتورط في قتل وقنص عناصر الجيش، للحديث معه، حيث يزداد الاهتمام بأمنه من قبل جنود الجيش الذين يعرفون جيداً أنه قتل زملاء لهم ورفاق سلاح. «ولو»، اليوم، في عرف المعارضة المسلحة خائن للثورة السورية ومجاهديها، وفي الوقت ذاته يتوقع له البعض نهاية غامضة في ظل الجدل القائم حول تركه حُراً طليقاً من قبل الجيش السوري. مصادر إعلامية نقلت عن مسلحين طليقين في تلكلخ ندمهم عمّا قاموا به، إنما تبريرهم أن الثورة جاءت في توقيت منعت دمشق خلاله التهريب من وإلى لبنان، ما أغلق المنافذ في وجوههم وجعلهم يتجهون إلى قتالها لقناعتهم بالظلم اللاحق بهم. حجّة متوقعة لسكان مدينة تعتمد على نحو رئيسي على التهريب بسبب بعدها مسافة 5 كيلومترات فقط عن الحدود اللبنانية.
تتعلق أهمية استعادة السيطرة على تلكلخ بعد القصير مباشرة، بقطع طرق الإمداد العسكري واللوجستي بين المسلح في سوريا وداعمه اللبناني المتمركز في شمال لبنان، والمتمثل في بعض الجماعات السلفية. ومع سيطرة الجيش على المدينة وتحصيناته على طول الحدود مع مناطق عكار وبعلبك اللبنانيتين، يركّز عملياته العسكرية حالياً على منطقة ريف دمشق الغربي، المتاخم أيضاً للحدود اللبنانية، حيث لا ضجّة إعلامية ترافق تقدمه في محيط الزبداني.
المزاج العام في تلكلخ وصل سريعاً إلى نقيض المزاج السابق. هُنا لا يمكن أن يعلن شخص ما عن معارضته، الجميع يفدون الرئيس «بالروح والدم». الجميع يبثون الجيش تحياتهم، فيما عناصر الجيش المحصّنون بخوذهم ودروعهم وحذرهم يبادلونهم التحية بنظرات حيادية. أحد الجنود يؤكد أن المصالحة جاءت ضرورة لحقن دم من تبقى من رفاقه، ومن المدنيين الذين لا ذنب لهم، إنما لا معنى لإطلاق سراح من ثبت تورطه في الدم السوري، ومن غير المفهوم ترك أعداد من المسلحين تهرب باتجاه لبنان. بالنسبة إلى الجندي، لا مهادنة مع حمَلة السلاح، إذ ما من حامل سلاح لم يتورط في الدم، وبالنسبة إليه الأمر بديهي لأي طفل سوري، والنقاش مع أصحاب نظرية «أوقفوا القتل» عقيم. يفرح الجندي بالأمان المخيم اليوم على المدينة، وهو سعيد بلحاق المدينة سريعاً بالقصير، إنما يتحسر على إفلات بعض من يسمون أنفسهم ثواراً من قبضة العدالة. ينظر الشاب إلى زميل له يجلس جانباً، يداعب قطة صغيرة بحُنوّ، فيما يظهر الرضى على ابتسامته الواسعة. يبدو الجندي كما لو أنه يتأمل السلام المأمول للبلاد، ولكن الحسرة والحزن واضحان في نظراته. رفيقه يرفض الإجابة عن أي سؤال. يكتفي باللعب مع القطة الصغيرة، والابتسام للكاميرا التي انجذبت إلى المشهد.
لا تنطلي المصالحة كثيراً على بعض الموجودين داخل المشهد من عسكريين ومدنيين. أحد المدنيين «المؤيدين» الموجودين يقابل شعارات يهتف بها الأطفال وبعض أهاليهم للجيش والرئيس، فيقول هامساً: «هذه نتائج الحزم أخيراً». ويعترض على وجود مسلحين في منازلهم آمنين. كذلك، ترى امرأة من سكان المنطقة أن باب التوبة مفتوح للجميع، وأن «الشيخ ولو» وبقية شباب تلكلخ عادوا إلى حضن الدولة السورية، كعناصر من اللجان الشعبية لحماية مدينتهم من تسلل مسلحي المعارضة إليها مجدداً. حتى الطفل في تلكلخ يجيب عن سؤالك حول المسلحين، أنهم هربوا إلى لبنان. لا أحد يدلّ على منزل مسلح في المدينة، بل سيقولون إن المسلحين غرباء، كما في معظم المناطق السورية المشتعلة التي تعود إلى سيطرة الدولة. وكل آباء الأطفال موظفون في الدولة، بحسب الإجابات الطفولية الموجّهة. تعجز عن تكذيب الابتسامة الحقيقية على وجوه النساء والأطفال في تلكلخ، وفي الوقت نفسه ترفض تصديق أنهم يهتفون للنظام بعد أشهر طويلة من التمرد المسلح، وتوفير بعضهم الحاضن الشعبي لعناصر الجيش الحر.
في تلكلخ فقط ترى الأطفال يجلسون على الرصيف إلى جانب عناصر الجيش، بمقدار عجيب من الاطمئنان. بينما تفاجأ، في الوقت ذاته، بما قد تسمعه منهم إن سألتهم عن ممارسات الجيش في المدينة. تراوح إجابات الأطفال بين تحية الجيش والهتاف لرئيس الجمهورية بشار الأسد، وملاحظات مستاءة من تصرفات جنود الجيش، يتذاكى بعضهم في الكشف عنها، ما يوحي بما بقي داخل النفوس من تحفّظ. في الشارع المواجه لحديقة المركز الثقافي في تلكلخ، سيروي لك أحد الأطفال كيف رأى جنديّاً في الجيش السوري يدوس بقدمه رأس قطة صغيرة. على نحو آلي ستعود ذاكرتك إلى مشهد الجندي الذي تحدثت إليه منذ برهة، والذي كان يداعب القطة بحنان. صورة «ربّ المعركة» اللطيف موجودة لديك، ورواية الطفل «الطيب» في الذاكرة أيضاً. قد تكون مصالحة هشّة، التي لن تعود بخير على السوريين على المدى البعيد، إن لم تعقبها حلول جذرية وإجابات عن كل المسائل العالقة، ولا سيّما في ظل وجود المسلحين على بعد كيلومترات قليلة في قرية الزارة وقلعة الحصن.