العالم لا تعمّه فقط تظاهرات واعتصامات الشباب ضدّ أداء حكامهم، في إطار موجة غضب كونيّة تريد التغيير الآن. ففيما تُغطّي الوجوه تلك الأقنعة الشهيرة التي تُعبّر عن السخط _ تماماً كالبطل V في الفيلم الشهير _ يزدهر الفساد في الأنظمة بأوجه مختلفة، متلطّياً في كثير من الأحيان تحت مظلّة المؤسسات الرسمية والمصالح الخاصّة.
«الفساد يتفشّى على نحو واسع». ليس غريباً أن يخرج تقرير مقياس الفساد لعام 2013، الذي تُعدّه مؤسسة الشفافية الدولية (Transparency International)، بهذه الخلاصة. وليس غريباً أيضاً أن يحلّ لبنان في المراتب المتقدّمة فيه، وفقاً للعرض الذي قدّمته بمناسبة إطلاق التقرير، جمعية «لا فساد» (LTA) في بيروت أمس.
يُعدّ مقياس الفساد استطلاع الرأي العالمي العلني الوحيد المتعلّق بالفساد. ولإعداد نسخة عام 2013، استُطلعت آراء 114270 شخصاً في 107 دول. ومن الخلاصات الأساسية التي توصّل إليها أنّ 27% من المستطلعة آراؤهم دفعوا رشى للحصول على خدمات في المؤسسات العامّة في عام 2012، «ما ينفي أي تحسن على نتائج الاستطلاعات السابقة».
اللافت هو رغم التشاؤم الذي يتسرب من بيانات التقرير، يبقى 90% من المستطلعة آراؤهم يُشدّدون على أنّهم مستعدون لمحاربة الفساد، وأنّ ثلثي الذين طُلب منهم دفع رشوة رفضوا ذلك، «ما يُفيد بأنّ على الحكومات والمجتمع المدني وقطاع الأعمال فعل المزيد لكي ينخرط الناس في مواجهة الفساد».
ويُسأل المشاركون في الاستطلاع عن الفساد في دولهم، وعن المؤسسات التي يرونها تعاني من مشكلة الفساد أكثر من غيرها. كما يؤمّن نافذة إلى خبرات الناس في الرشوة على مدار العام الماضي في ثمانية قطاعات/ خدمات. ويسأل الناس عن مدى فعالية الحكومة في وقف الفساد، ومدى استعدادهم للمشاركة شخصياً في مكافحته. وللمرّة الأولى، يتضمّن مؤشر عام 2013 تقويماً لرؤية الجمهور حول أهمية تأثير المصالح الخاصة والعلاقات الشخصية على مجريات الأمور في دولهم.
ووفقاً لرئيسة الجمعية اللبنانية، ندى عبد الساتر، فإنّ 84% من اللبنانيين الذين استطلعت آراؤهم في الدراسة اللبنانية رأوا أنّ مستوى الفساد في تضخّم مطّرد؛ 89% يرون أنّ المصالح الخاصة تطغى على سير أعمال الحكومة؛ و90% يرون أنّ العلاقات الخاصة مهمّة جداً في التعاطي مع المؤسسات العامّة من أجل إنجاز المعاملات وتخليصها.
في التطبيق، يوضح الاستطلاع أنّ 49% من اللبنانيين «يلجأون إلى دفع الرشى بهدف تسريع المعاملات». 19% منهم يدفعونها «بمنزلة هدية أو عربون شكر»، 16% يدفعونها للتوفير في السعر. والنسبة نفسها ترى أنّ تلك الرشوة ضرورية للحصول على الخدمة من أساسها!
لكن الأخطر بين مختلف المؤشرات هو أنّ 65% من اللبنانيين يفضلون السكوت عن قضايا فساد قد يقعون ضحيتها، إذ يرون أن شكواهم لن تؤدي إلى معاقبة الفاسدين. وهذا الوضع ليس غريباً، إذ إنّ 77% من اللبنانيين يرون أنّ الحكومة ليست فاعلة في مكافحة الفساد، وبالتالي لا يثقون بإجراءاتها.
في مقابل ذلك، يُعرب 58% من المستطلعة آراؤهم عن أنهم يستطيعون المشاركة في عمليات مكافحة الفساد عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي (Social Media)، فيما يُفضّل 57% منهم توقيع العرائض أو المشاركة في التظاهرات للضغط على الحكومة في هذا الإطار.
في ظلّ هذه المؤشرات غير المشجّعة أبداً عن أحوال الشفافية في العالم، وفي لبنان، تُعيد الجمعية تلاوة العناوين نفسها التي تطنّ بها آذان المهتمين منذ نشأة المجتمعات نفسها (!): العمل على تطبيق قواعد الحكم الصالح في المؤسسات العامة عن طريق اعتماد النزاهة والشفافية والتجاوب مع أجهزة الرقابة المحلية؛ تفعيل أجهزة الرقابة الحكومية وتحصينها من أصحاب السلطة والنفوذ؛ سن معايير الإدارة المالية العامة بما يتوافق مع المادة 8 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC)؛ تشجيع المواطنين على المشاركة بكثافة في التصويت في صناديق الاقتراع لاختيار المرشحين النزهاء...
كلمات جميلة في دعوات تقليدية. إذ لا يُفاجأ أحد بمعرفة أنّ نصف اللبنانيين يدفعون الرشى لإنجاز معاملاتهم على نحو سريع. لذا فالسؤال الحقيقي الذي يُطرح في مجال البحث هذا هو: ماذا عن التغيير الفعلي الذي يُمكن تحقيقه؟ وفقاً لكلمات مديرة منظمة الشفافية الدولية، هوغيت لابيل، «تبقى مستويات الرشوة عالية جداً عالمياً. غير أنّ الناس مؤمنون بأنهم يملكون القوّة لوقف الفساد». وتُشير إلى أنّ أعداد المستعدين لمواجهة استغلال السلطة والصفقات السرية المشبوهة والرشوة تبدو مهمّة.
فهل يتزايد انتشار تلك الأقنعة الشهيرة في المجتمعات المختلفة من الشرق إلى الغرب لتتوحّد الشعوب حول الشفافية ومكافحة الفساد واستغلال الثروات وتركزها في أيدي قلّة؟