مطلوب من القوات المسلحة مواجهة الإرهاب والحركات الأصولية. مطلوب منها ضمان السلم الأهلي والأمن الداخلي. مطلوب منها حماية الحدود، وبتعبير «المجتمع الدولي» الوصول إلى تسلم المهمات التي تتولاها قوات الأمم المتّحدة في إطار قرار مجلس الأمن رقم 1701.
الجيش يؤدّي المهمّة بما تيسّر على مختلف هذه الجبهات. غير أنّ تعاظم المسؤوليات الملقاة على تلك البزات المموّهة، يحتّم رفع الموارد المتاحة لها.
التحدّي الأساسي الذي مثل أمام الجيش منذ انتهاء الحرب كان معركة نهر البارد الشهيرة عام 2007 مع مقاتلي المجموعة الإسلامية المتطرفة، «فتح الإسلام» (إضافة إلى مشاركة من تنظيم «جند الشام»). قضى في تلك المعركة 168 شهيداً للجيش وجُرح أكثر من 400 عنصر في صفوفه.
تكثفت التحدّيات مع العمليات الإرهابية التي نُفّذت بالتجزئة ضدّه، ووصلت إلى الأوج مع معركة عبرا في وجه مقاتلين إسلاميين موالين للشيخ أحمد الأسير. في هذه المواجهة خسر الجيش 18 عنصراً إضافة إلى الجرحى.
«تزداد احتياجات المؤسسة العسكرية في ظلّ المهمات الإضافية الكبيرة التي تنفذها. المهمات الإضافية تعني نفقات جديدة على النقل، العديد والعتاد والتجهيزات»، يُعلّق عقيد في الجيش اللبناني مطّلع على الجوانب التقنية من نشاط المؤسسة. «لكن، لنكن واقعيين. إن مؤسسة الجيش جزء من اقتصاد هذا البلد، وتتأثر بماليته العامّة (المتدهورة) إجمالاً».
يشرح العقيد أنّ قيادة الجيش تحاول قدر المستطاع بالتعاون مع وزارة الدفاع تدبير الاحتياجات وفقاً للموارد المتاحة. ولكن كم هي هذه الموارد تحديداً؟ وكيف يجري تصنيفها؟
يتوزّع إنفاق وزارة الدفاع الوطني بين أبواب مختلفة، لكن أهمها هو الفصل الخاص بالـ«الجيش» أو «القوات المسلّحة» الذي يستأثر بـ99% من هذا الإنفاق. المشكلة هي أنّ النسبة الأكبر من موازنة الجيش تُنفق على النفقات الجارية.
يرصد مشروع موازنة عام 2012، إنفاقاً لوزارة الدفاع الوطني بقيمة 1790 مليار ليرة تقريباً. منها 1772 مليار ليرة لـ«القوات المسلّحة» – أي الجيش اللبناني – ما يعادل 1.17 مليار دولار.
ما يلفت المراقب مباشرة أنّ 95% من هذا الإنفاق يُدرج في الباب الأوّل من الموازنة، أي إنّه إنفاق جار. ووفقاً للتصنيف المعتمد، تبلغ المخصصات والرواتب والأجور وملحقاتها 1388 مليار ليرة، أي أكثر من 78% من الميزانية الإجمالية للقوات المسلّحة.
من البنود اللافتة الأخرى، الكلفة المرصودة للدراسات، ونظرياً لـ«عقود التدريب في الداخل والخارج». هنا يتقزم الإنفاق إلى 225 مليون ليرة فقط.
يُخصّص الجيش أيضاً 17 مليار ليرة لتغذية «النفقات السرية»، وهي إجمالاً أكلاف النشاطات الاستخبارية. الملاحظة هنا هي أنّه في وضع بلد كلبنان يعاني نقصاً في الموارد الماليّة والفكر السياسي للاستثمار في الجيش، يجب في المبدأ أن تنصب الجهود على الدفاع الداخلي الاحتوائي، الذي يحفظ الأمن القومي من مخاطر الداخل عبر شبكات الاستخبار التي تلتقط هوائياتها دوماً ذبذبات الخطر. بمعنى آخر، يجب استغلال الموارد المتوافرة لاحتواء المخاطر الأمنية قبل تطوّرها والاضطرار إلى الاستعانة بترسانة متكاملة لمواجتها لاحقاً، أي الحرب الاستباقية، ولكن ليس على الطريقة الأميركية.
على أي حال، يوضح الباب الثاني من الموازنة، حيث تُسجّل النفقات الاستثمارية على التجهيزات والمعدّات، أنّ إجمالي الإنفاق لوزارة الدفاع يبلغ 92.33 مليار ليرة، منه 91.56 مليار ليرة للجيش. من هذا الرقم يُخصّص 56 مليار ليرة للتجهيزات الإجمالية، ولكن هذا البند يضمّ أيضاً «الأثاث والمفروشات والتجهيزات المكتبية». هكذا يبقى 52.5 مليار ليرة للتجهيزات الفنية، وتحديداً التجهيزات الفنية المتخصصة التي يُنفق عليها 50 مليار ليرة.
لا يُخفي القادة العسكريون أهمية المساعدات الخارجيّة في سدّ الحاجات الناجمة عن ضعف تمويل المؤسسة العسكرية. «بعض الدول الصديقة تسدّ الهوة الموجودة بين الحاجة والموارد المتاحة» يقول العقيد.
غير أنّ الحلول الجذرية في تغذية عروق القوات المسلّحة يجب أن تكون الخطط. أخيراً، أقرّ مجلس الوزراء الخطّة الخمسية لتسليح الجيش اللبناني، التي يقوّمها الخبراء على أنّها الطريق المضمون صوب تعزيز مقومات الجيش خارج الإطار الهشّ الذي ترسمه الموازنة العامّة.
بحسب قائد الجيش، العماد جان قهوجي، إنّ الخطة هي «أحد أهم إنجازات المؤسسة العسكرية في الأعوام الأخيرة، التي تعبّر عن تطلعاتنا من أجل جيش قوي، يتمتع ضباطه وعسكريوه بأفضل الخبرات والتجهيزات لحماية النظام اللبناني وسلامة بلدنا، من أخطار الداخل والخارج».
«نعوّل على الخطّة فعلاً لتخطّي مشكلة الرصيد الضعيف المخصص للجيش في الموازنة» يقول العقيد. ولكن بعدما كان المبلغ المرصود في الخطّة عند 5 مليارات دولار، استقرّت بورصته على 1.2 مليار دولار فقط.
«صحيح أن المبلغ صغُر بنسبة 76%، غير أنّنا نتفهّم دواعي التقشّف»، يُتابع العسكري المخضرم. يُشير إلى أنّ المؤسسة تحاول قدر الإمكان التصرّف بهذه الإمكانات المتاحة لتحديث المعدات وتنفيذ عمليات التطويع الإضافية، وتعزيز الوحدات بما يتلاءم مع تحديات المرحلة. «كما تعلم، الجيش يقاتل باللحم الحيّ لضمان السلم الأهلي، وفي نهاية المطاف، رغم كل شيء، نحن لنا مصلحة بالاستقرار السياسي».
لكن رغم الرضى العسكري الذي يُرصد «على مضض»، وعلى قاعدة أنّ «الموازنة فيها ما يكفيها»، يُمكن الملاحظة أنّ الموازنة نفسها تخرج عن سياق المنطق كلياً في بعض مطارح الإنفاق وأنّ السياسة التي تُشكّل فلسفتها لا تُترجم الحرص على السلم الأهلي عبر الإنفاق العام، بل تُمعن في تهميش نفقات العسكر.
فلنأخذ مثال «التجهيزات» في موازنة الجيش. يتضمّن هذا البند الإنفاق على «التجهيزات المعلوماتية» الذي يبلغ 2.5 مليار ليرة فقط. ولنعمد إلى مقارنة بسيطة إنما ذات دلالات كبيرة هنا: بحسب الموازنة، يُخصّص لـ«الشؤون الدينية» 6.75 مليارات ليرة، أي ما يوازي 270% من إنفاق الدولة على التجهيزات المعلوماتية لجيشها!
تماماً كدور الأديان في هذا المجتمع، اللبنانيون ليسوا غرباء عن السلاح. ليس فقط لاستعماله، بل للمتاجرة فيه. ولكن هذه التجارة اللبنانية لم تنجح في تعزيز مقوّمات الجيش، أكان عبر الصفقات المدفوعة أم عبر تسهيل اتفاقات المنح.
يُشير أحد المراقبين إلى نشاط كبير لـ«تجار» هذا البلد في تسيير شؤون صفقات الأسلحة في بلدان الخليج مثلاً. «هكذا يكون اللبناني وسيطاً في تسليح الدول، فيما يفشل بلده في تعزيز مقوماته العسكرية».
غالباً ما يتحدّث المراقبون عن صفقات السمسرة تلك، ودور شخصيات كبيرة من لبنان فيها، أكانت من مجتمع الأعمال أم السياسة. وتُشكّل تجربة أحد الوزراء اللبنانيّين البارزين عبر دوره في صفقة «اليمامة» الشهيرة بين السعودية وشركة صناعة الأسلحة البريطانية «BAE Systems»، المثال الأبرز في هذا الإطار.
تصاعدت روائح هذه الصفقة منذ عام 1985، ولم تُفضح كلياً إلا في عام 2006، حين ظهر أنّ السفير السعودي السابق إلى الولايات المتّحدة – المدير العام لوكالة الاستخبارات في المملكة منذ عام 2012 – بندر بن سلطان بن عبد العزيز، هو من تفاوض مع رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، مارغريت تاتشر، لتدبير صفقة الأسلحة التي ولّدت للشركة إيرادات بقيمة 40 مليار دولار على فترة 20 عاماً.
نتيجة التحقيقات، توصلت الشرطة البريطانية إلى أنّ «أكثر من 6 مليارات دولار وُزّعت على شكل عمولات فاسدة عبر مجموعة من العملاء والوسطاء». بعضها وصل إلى أنّ الوزير اللبناني احتفظ بحصّته من المخطط في حسابات مصرفية سويسرية على الأرجح.
السعودية نفسها هي البلد الأوّل على مستوى الإنفاق على التسلح قياساً بالناتج المحلي الإجمالي. تتصدّر المملكة بلدان العالم بنسبة 8.9%، تلحقها في المرتبة الثانية دولتان بنسبة 8.4%: الأولى خليجية هي سلطنة عمان، والثانية هي أحدث دولة على المعمورة، جنوب السودان.
أمّا إسرائيل فتحتلّ المرتبة الرابعة عالمياً، بنسبة 6.4%؛ إذ أنفقت هذه الدولة 15.4 مليار دولار على «النفقات العسكرية» في عام 2012 وفقاً للتصنيف الذي يعتمده معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
يحلّ لبنان وراء جميع تلك البلدان؛ إذ تمثّل النفقات العسكرية الإجمالية فيه 2.8% فقط من ناتجه المحلي الإجمالي. المشكلة ليست في الحجم فقط، بل في الحاجة. جيش لبنان يُنفّذ مهمات ــ بالقدرات المتاحة والحالة اللوجستيّة التي أُوصل إليها ــ تفوق بأشواط التحديات التي يُمكن أن تمثل أمام جيوش أخرى لحكومات تكتفي إجمالاً باستخدام الوسائط لخوض حروبها.