انطلقت أعمال تجديد حديقة الصنائع الشهر الماضي. روّادها اليوميّون اطمأنوا إلى أنّ الأعمال فيها هي لتجديدها بعدما رضخت بلدية بيروت وألغت مشروع إنشاء مرأب تحتها. فهل تحافظ الحديقة على مقاعدهم فيها في المخطّط الجديد؟
مع حلول الربيع المقبل، لن تكون حديقة الصنائع هي نفسها. فأعمال «التجديد» التي أطلقتها بلدية بيروت في بداية شهر حزيران الماضي، والتي أقفل بسببها نصف الحديقة أمام الزوّار، ستحمل جديداً إلى الحديقة «من دون تغيير معالمها»، بحسب المعمار والمتخصصة في تنظيم الحدائق زينة مجدلاني.
في وقت يظنّ فيه روّاد الحديقة أنّ التغييرات التي ستطرأ على الحديقة بسيطة، لا تتعدى كونها إصلاح البركة، قام رئيس بلدية بيروت بلال حمد، أمس، مع مموّلي مشروع إعادة تأهيل حديقة الصنائع «مؤسسة أزاديا» و Asam، شركة المقاولات التي تتولى إدارة المشروع، بفتح الجزء المقفل من الحديقة أمام الإعلام، ليكشفوا عن حجم التغييرات الهندسية، وربما السوسيولوجيّة التي ستجتاح الحديقة.
فالمخطّط الجديد للحديقة يشمل إنشاء مسرح في الهواء الطلق، ثلاثة ملاعب للأطفال، مكانين مخصّصين للمعارض الفنيّة، مضمار للركض وآخر للدراجات الهوائيّة، بالإضافة إلى حائط من الحجر الرملي، هو «حائط المشاهير» الذي ستُنحَت عليه أسماء مشاهير لبنانيين. وسيكون العمل على هذه التغييرات في مرحلتين: المرحلة الأولى بدأت في حزيران الماضي، ومن المفترض أن تنتهي نهاية هذه السنة، بينما في المرحلة الثانية سيُقفَل الجزء الثاني من الحديقة لتبدأ الأعمال فيه وتستمر حتى الربيع المقبل. تتكفّل بتمويل المشروع كاملاً «مؤسسة أزاديا» المعروفة في مجال تجارة الألبسة، بمبلغ قدره مليونا وربع مليون دولار.
رغم التغييرات الكبيرة التي ستطرأ على الحديقة، إلا أنّ زينة مجدلاني تصرّ على طمأنة القلقين إلى «أنّ الجوهر لن يمسّ»؛ فالعمل سيتركّز على «تعزيز تصميم الحديقة»، لا تغييره؛ إذ إن حديقة الصنائع هي أقدم حديقة في بيروت، أسّسها مع حيّ الصنائع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في أواخر القرن التاسع عشر. وهي جزء من مدرسة الفن وتعليم المهن، التي تحوّلت اليوم إلى وزارة الداخلية وكلية الحقوق سابقاً. وبنى المجمّع حينها السلطان عبد الحميد الثاني ليُظهر للغرب الوجه الحضاري لسلطنته. وبنيت الحديقة بحسب نظام الحدائق الفرنسية. وقالت مجدلاني: «ستُزرَع الأشجار الجديدة بطريقة تعزّز وتحافظ على نظام التناظر (symetrie) الذي بُنيت عليه».
أعمال التجديد ستضمن إذاً المحافظة على هندسة الحديقة، لكن ماذا سيحلّ بروّادها والأشخاص الذين يعتاشون من عملهم فيها؟
تمرّ إلى جانب أحد مقاعد الحديقة، فيصمت الجميع فجأة، منتظرين رحيل «الغريب». ثم ما إن يظنّون أنّه ابتعد كفاية، حتى تعود «البصّارة» لتفتح يد الشاب وتخبره عمّا ينتظره. بعد لحظات يسود الصمت ذاته على مقعد آخر انتقلت إليه البصّارة. هذه الأخيرة وجدت مكانها وزبائنها الاعتياديين في بعض روّاد الحديقة. بائع القهوة على مدخل الحديقة لا يريد أن يرحل أيضاً. بالنسبة إليه، أيّ عملية تحسين أو تجديد للحديقة لن تجبره على الرحيل؛ فهو ولد وترعرع في منطقة الصنائع والحديقة، وعندما أصبح في سنّ العمل نصب ماكينته أمام باب الحديقة. المكان كلّه هو بمثابة منزله. يزيد من ثقته أنّه باقٍ مكانه، أنّه «مدعوم من حدا كتير كبير» كما يقول. لكن ملتزمي مشروع الحديقة الجديد يتهامسون بشأنه ويتوعّدون بإجباره على الرحيل. ففي المخطّط الجديد ستُبنى أكشاك «أكثر أناقة» لبيع روّاد الحديقة القهوة والمشروبات. المخطّط الجديد بمسرحه ومكانَي العرض فيه، سيستقطب شريحة مختلفة أيضاً من الناس. فكيف سيتعامل أبو مازن و«شلّته» مع الوافدين الجدد؟ أبو مازن كان شاهداً على الأيام التي كانت فيها الحديقة مكان تسلية للبورجوازيين، ثم على تحوّلها خلال سنوات الحرب الأهليّة وما بعدها إلى مساحة شعبيّة. يضاف إلى روّادها اليوم أيضاً اللاجئون السوريّون. عيسى تعرّف إلى مقاعد الحديقة وإلى أهلها. أولاده يعملون في بيروت، فلحق بهم منذ بضعة أشهر هرباً من الأزمة في بلاده. «الفراغ الذي أعيشه يقودني إلى الحديقة يومياً»، يقول. إلى جانبه يجلس صديقه المتقاعد محمد. تعارفا على مقعد الحديقة؛ فمحمد مستعد دائماً لأن يستقبل على مقعده «الأوادم». هكذا يعيش كبار السنّ في الحديقة كلّ يوم «دوام» تقاعدهم. زيارة قبل الظهر وأخرى بعدها. طاولة أبو مازن و«الشلّة» بعيدة عن عيسى ومحمد. هم أيضاً متقاعدون من أعمالهم، لكنّ فريق لعبتي الداما والشطرنج خاصتهم غير مفتوح للوافدين الجدد. ينظر أبو مازن إلى الأولاد اللّاهين والعائلات من حوله في الحديقة التي ترعرع فيها، ويقول إنّ الحديقة كبيروت أصبحت كلّها «غُربيّة». يقصد بذلك الوافدين إليها من المناطق اللبنانية الأخرى. لكن مهما تغيّرت الحديقة، فلن يتركها أبو مازن أو محمد، أو حتى عيسى. فهي المكان الذي يمارسون فيه حياتهم. وكي ينجح مخطّط الحديقة الجديد، عليه أن يحافظ على حياة هؤلاء من خلال محاولته استقطاب الحياة الجديدة. هذا الموضوع يجب أن يكون الهمّ الأوّل لمجدلاني؛ فقيمة الحديقة هي في أنها فسحة خضراء شعبيّة، يشعر كلّ من يقصدها بأنّ له مقعداً بين مقاعدها التي ستتزايد أعدادها، وإلّا فلن تنفع إضافة أشجار إلى الحديقة؛ إذ سيُقضى على ما بقي فيها من حياة. فالخوف من أن يجري التعامل مع الحديقة وكأنّها مسرح خاص، يُفتَح ويُغلَق متى أرادت البلدية، بسبب حفلات أو معارض تتناسب مع شكل وحجم الإضافات التي ستطرأ عليها.
التجديد في حديقة الصنائع سبقته أعمال مماثلة في حديقة وليم حاوي في الجعيتاوي وحديقة حوض الولاية التي ستُفتتح في عيد الفطر، بينما الأنظار تتجه الآن إلى حديقة اليسوعيّة (الجعيتاوي) التي اتُّخذ قرار إنشاء مرأب سيارات تحتها، ومثلها حديقة حسن خالد، رغم معارضة أهالي المنطقة للمشروع. يبرّر حمد إلغاء المجلس البلدي قراره بإنشاء المرأب تحت حديقة الصنائع بالقول إنّه تبيّن لهم أنّه لا حاجة فعليّة إلى بناء مرأب للسيارات تحت الحديقة، بما أنّ المباني السكنيّة من حولها معظمها تقريباً يحتوي على مرائب. كذلك استعاضت البلدية عن ذلك باستملاكها عقاراً (2000 متر) وسط الحمرا، ستستعمله لهذه الغاية. حمد قال ذلك رغم أنّ واجهة المباني الملمّعة والجديدة المطلة على حديقة الصنائع تخفي خلفها الأحياء القديمة والمكتظة حيث الأبنية بلا مرائب للسيارات. فهل تذكير البلدية بهذا الموضوع يمكن أن يحمي منطقة الجعيتاوي من المرأب القادم نحوها؟ حمد لا يجد الأمر منتهياً بعد؛ إذ يقول إنّ أهل المنطقة سيُدعَون بعد الانتهاء من إعداد الدراسات النظريّة للمشروع، خلال أسبوعين، لمناقشتهم في مخطّط الحديقة والمرأب أيضاً.