لم يكد الشاب العشريني وخطيبته يدخلان بوابة أحد المطاعم المتناثرة على ضفاف نهر العاصي في الهرمل، حتى هرع أحد العمال لاستقبالهما بحفاوة. رتّب الكراسي ومسح الطاولة الأقرب إلى ضفة النهر الشهير ليتناسب المشهد مع الجلسة الرومانسية. كيف لا، والمخطوبان كانا الوحيدين اللذين يقصدان المتنزه منذ أسابيع؛ الطاولات والكراسي الموضّبة على نحو متناسق توحي بأن لا زبائن غيرهما.
دقائق قليلة ويدوّي صوت شبيه بالرعد، انبعث من بين ثنايا جرود السلسلة الشرقية، ليتبعه، بعد أقل من خمس ثوانٍ، دوي انفجار أقوى في مدينة الهرمل. لقد سقط صاروخ «غراد» في أحد أحياء الهرمل. تبدأ موجة هلع. يهرع الثنائي باتجاه السيارة على وقع دوي انفجار صاروخ ثان. يحتمي صاحب المطعم وعماله في ملجأ مرتجل. يلعنون مطلقي الصواريخ على المنطقة والوضع الذين يعيشونه إجمالاً.
هذه هي حال الهرمل. المطاعم والمتنزهات والسياحة البيئية في جمود الخوف. انطلق الموسم ولكن فعلياً لا يزال في سبات. ففي مثل هذه الأيام من كل عام كانت متنزهات القضاء ومطاعمه تغصّ بالزبائن من كافة المناطق اللبنانية لقضاء يوم سياحي/ ترفيهي بامتياز. رياضة التجذيف (Rafting) تُعدّ أحد عناصر الجذب الأولى في المنطقة.
غير أنّ ما تشهده الهرمل من شهرين، وتحديداً استهدافها بالصواريخ من قبل مجموعات مسلحة، خلّف حالة من الخوف. لا تقتصر أضرار هذا الوضع على الأرواح والممتلكات، بل تقتل الموسم السياحي الذي يُعدّ المصدر الرئيسي للقمة عيش غالبية العائلات الهرملية.
عبد المنعم عابدين صاحب مطعم ومتنزه على ضفاف النهر الشهير، يوضح أنّه نتيجة ما يحصل «لم يعد هناك من مقومات للموسم السياحي في الهرمل، خصوصاً بعدما اقترن اسم المنطقة بسقوط الصواريخ». يتساءل: «إذا كان بعض أبناء الهرمل أنفسهم ينزحون عنها، فكيف لأبناء المناطق الأخرى والسائحين أن يقصدوها للترفيه وقضاء أيام العطل؟».
نظرة عابدين التشاؤمية تجاه الوضع الاقتصادي والسياحي في الهرمل تصل إلى تقويم أنّ الضربة الاقتصادية القاسية التي تتلقاها المنطقة لم تشهدها من قبل. برأيه، فإنّ إعادة الأمن والأمان المفقودين حالياً هي الشرط الأساسي لإزالة «حالة الرعب السائدة»، إذ حتّى أبناء المنطقة لا يزورون العاصي؛ «هناك لم تعد تجد سوى الإعلاميين الذين يقصدون المنطقة لتغطية أحداثها!».
ويعاني أكثر من 50 مطعماً ومتنزهاً في الهرمل من تراكم الديون والأكلاف الجارية، أي البضاعة وكلفة العمالة. يأمل القيمون عليها استقامة الأوضاع قريباً. وبغير ذلك يُمكن أن تصل خسارة كلّ مطعم إلى 40 ألف دولار تقريباً.
ويعاني قضاء الهرمل من تدهور الأوضاع الأمنية في محيطه. من الشرق تحدّه رأس بعلبك ومشاريع القاع التي استقر فيها بعض النازحين السوريين. في تلك المشاريع يقع معبر جوسييه الشهير مع سوريا، والذي يشهد دوماً حركة تسلّل مسلحين واشتباكات مستمرّة. أما من الشمال الشرقي فتحده قرى حوض العاصي السورية التي يسكنها لبنانيون. هناك، حيث قرية القصر والطريق إلى القصير، كانت المواجهات على أشدها خلال الشهرين الماضيين.
من الغرب هناك سلسلة جبال لبنان الغربية التي تفصل المنطقة عن قرى الشمال، أما لدى الاتجاه جنوباً فتجد منطقة شاسعة جرداء أولى القرى فيها هي الفاكهة، وصولاً إلى المفرق الذي يؤدّي إلى بلدة عرسال.
يؤكّد نائب رئيس بلدية الهرمل، عصام بليبل، أنّ عدد قاصدي المطاعم والمتنزهات تراجع بنسبة 95% هذا العام. ويوضح أنّه خلال السنوات الماضية كان يقصد الهرمل يومي السبت والأحد فقط ما يقارب ألف زبون. أما اليوم «فيُمكن إحصاؤهم على أصابع اليدين وغالبيتهم من أبناء المنطقة».
التأثير الكارثي لسقوط الصواريخ، في إطار مشهد مضطرب أمنياً يعمّ البلاد، يطال أيضاً مجالاً تجارياً مهماً للمنطقة: تربية أسماك الترويت. فالمنطقة مشهورة بهذا النشاط الاقتصادي الذي يعيل أكثر من 350 عائلة، فيما يبلغ عدد مرازع تربية هذا النوع من الأسماك النهرية حوالى 140 مزرعة. مع انتهاء فصل الشتاء من كلّ عام، يبدأ هؤلاء الإعداد للموسم الصيفي بتفقيس بيض سمك الترويت، «لكن حساب الحقل لديهم لا يتناسب هذا العام مع حسابات البيدر»، وفقاً لرئيس نقابة مربّي أسماك الترويت في البقاع، حيدر قانصوه.
يوضح المربّون أنّهم عمدوا هذا الموسم إلى تفقيس ما يقارب 15 مليون بيضة، استعداداً للموسم السياحي. ويُقدّر الإنتاج المرتقب خلال الأشهر الستة الممتدة من نيسان حتّى نهاية أيلول بـ2400 طن.
غير أنّ تفاقم الأزمة السورية على الحدود يكبح الطلب المباشر في المطاعم. كذلك فإنّ انعدام القدرة على تصدير ولو جزء بسيط من الكمية التي كانت تُصدّر في الأيام الطبيعية _ وتُقدّر بنسبة 70% من الإنتاج الإجمالي _ تؤدّي إلى كساده.
ويعتمد اقتصاد الهرمل بشكل رئيسي على السوق السورية. وحتّى في ظلّ الأوضاع السائدة حالياً، يقصد أهالي قضاء الهرمل بلدة العقربيّة _ وهي من قرى حوض العاصي _ التي أضحت السوق الأغنى والأرخص مقارنة بالسلع الموجودة في السوق اللبنانية؛ من البنزين إلى السلع الغذائية المختلفة، يتحدّث الاهالي عن أسعار تساوي نصف السائد لبنانياً.
يُشير حيدر قانصوه إلى تراكم خسائر المزارعين جراء الخسائر المتلاحقة من حرب تموز 2006، مروراً بالسيول الموسمية كل عام، وصولاً إلى فداحة خسائر هذا الموسم. «في المقابل تغيب تعويضات الدولة بشكل مستغرب».
ويُقدّر أنّ كلفة تربية وإنتاج الطنّ الواحد من سمك الترويت تبلغ ثلاثة آلاف دولار؛ هذا يعني خسارة هائلة لمربي الأسماك الصغار والكبار على حدّ سواء. «لا يُمكن هؤلاء الصمود ومواجهة خسارة كهذه في ظل غياب تعويضات فعلية من الدولة التي اكتفت حتى اليوم بإدانة ما نتعرض له من دون الوقوف إلى جانبنا ومساعدتنا».
ومن كارثة السمك إلى التجذيف، إذ يبدو أنّ تصنيف نهر العاصي أنّه أفضل أنهار الشرق الأوسط لممارسة هذه الرياضة لم يغطّ على المخاطر التي تحوق به. النوادي الخمسة التي تنشط على هذا الصعيد تعاني من ضعف الطلب. منذ نيسان الماضي لم يتخطّ معدّل ممارسة هذه الرياضية 5% ما كان عليه في السنوات الماضية.
مع تراكم هذه المشاكل في كافّة المجالات، لم يبق لأهالي قضاء الهرمل سوى فسحة أمل بسيطة تفصل بين وضعهم حالياً وبين حالة اليأس المطلق. يعوّلون على توقّف انهمار الصواريخ على منطقتهم خلال المرحلة المتبقّية من الموسم لكي يعوّضوا جزءاً من الخسائر التي ترتّبت عليهم حتّى الآن، مع العلم بأنّ منطقتهم تقع في تقاطع نيران حاد حالياً.