بيديها الصغيرتين، مسّدت راما شعرها الأشقر. وضعت فيه وردة. ثم نظرت إلى بنطالها الزهري القصير لتتأكد من نظافته، غير آبهة بـ«شحاطة» أخيها التي تكبر قدمها. اطمأنت إلى مظهرها الخارجي، وهرعت واقفة أمام الكاميرا «صورني صورة حلوة وما تنسى تبعتلي ياها». ربما هي المرة الأولى منذ وقت طويل تقف فيها تلك الصغيرة أمام عدسة كاميرا، تلتقط صورة لوجهها الملائكي. ولكن، الأكيد أن تلك الصورة لن تأتي، فالمصور الذي أتى في رحلة عمل لن يتذكر وجه راما من بين آلاف الوجوه التي تشردت على شاكلتها، ولن تراها أيضاً في التلفزيون. فهنا، في بيت الخشب والنايلون في شبه التجمع الذي يقطنه السوريون اللاجئون في قرية علمان الشوفية، لم يصل الترف إلى حدود شراء تلك الآلات. ومن يملك هذا الترف، فقد يكون «هدية» من الجيران. ومع ذلك، يبقى ديكوراً بلا صوت ولا صورة في ظل «العتمة» شبه الدائمة. وهذا التفصيل لم يكن مهماً في إقامتهم، فثمة أولوية لا بديل منها هنا: تأمين لقمة العيش. لا أكثر ولا أقل. مطلب على بساطته، إلا أنه كل شيء بالنسبة إلى هؤلاء.
هناك، في الفسحة الوعرة العارية التي تتوسط بيوت استحال قرميدها أخضر من انعكاس الشجر، نبتت حيوات سورية لاجئة على الهامش. قبل أن يصلوا إلى القرية، ظنوا أنهم سيجدون شجرة يتفيّأون ظلها. فقط، لأن المنطقة «شوفية». والشوف، في بالهم، «كتير حلو»، تقول رويدة أبو شكما «عالسمعية». مع ذلك، لم يغيروا ما في بالهم، فقد رأوا الشجر والحقول الكثيرة التي تميّز منطقة علمان وبيوت القرميد الأحمر والجلول المرصوفة بعناية وطرقات الحجر. رأوها في طريقهم ولم يروها في الفسحة التي يرممون حياتهم المؤقتة فيها اليوم. ففي الحي الذي كنّي باسم ضيعتهم الإدلبية التي هربوا منها، «حي بارة»، لكون الغالبية منهم من تلك القرية «مع 3 بيوت من جبل الزاوية وأريحا» ــ تقول رويدة ــ بدأ اللاجئون حياتهم من الصفر. لم يكن في تلك الفسحة الوعرة إلا بضع غرف صغيرة من الباطون بلا سقوف تحمي الرأس. ومن سكنوها قبلاً، وهم عمال سوريون، سقفوها على ما يبدو بألواح «زينكو»، لكنها اهترأت ولم يبق منها إلا هياكل. المبنى الوحيد الذي كان له سقف هو المبنى الذي شيّده أحد الجيران اللبنانيين، ولم يكمله، فقد أجّره «على العظم» للسوريين، وسعر الغرفة فيه بلا منتفعات تبدأ من 100 دولار أميركي. الكل مستأجر في الحي الجديد، وبعض إيجارات الغرف وصل إلى 200 دولار، يدفعها اللاجئون من جيوبهم بلا مساعدة، وغالباً ما يصلون الليل بالنهار لتأمينها. وبحسب أحد الجيران اللبنانيين، كل بيت هنا له سعره، فليست كل البيوت بسعر واحد «ويرجع هذا الأمر إلى صاحب الملك».
عندما أتوا قبل عام ونصف، كان عدد تلك البيوت كافياً لهم، ولكن شيئاً فشيئاً، تضاعف العدد وباتت الحاجة إلى بيوت إضافية أمراً ملحاً. وبما أنه لم يكن في اليد حيلة.. ولا مال، صاروا يقطنون عائلات بعضهم مع بعض «بحكم الجيرة في بارة»، تقول أم أحمد. ووصل عددهم إلى 13 عائلة، متوسط عدد أفراد العائلة 5.
مرت أشهر على وجودهم عاشوا فيها وحدهم. يأكلون من «عمل الفاعل»، تقول رويدة، العزباء الوحيدة في الحي التي تعمل «بالمجرفة بعشرة آلاف ليرة باليوم». عاشوا عزلتهم بعيدين عن الجيران، ولم يعرفوا في حينها إلا اسم الحي. عرفوه باسم حي المخابرات، بلا تفاصيل أخرى. أما أبناء المنطقة فيعرفونه مركزاً لعناصر من الجيش السوري كانوا يقيمون أيام وجودهم هنا في تلك المنطقة. وعندما رحلوا، لم يبق منهم إلا الأثر. أتى بعدهم عمال سوريون أيضاً. وفي الدفعة الثالثة، أتى اللاجئون الذين تبعتهم بعض المنظمات والمؤسسات الدولية، بعد تأخير يقال إن له علاقة بالتسجيل، ومن هؤلاء جمعية الإغاثة الأولية (premiere urgence) والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين والاتحاد الأوروبي الذي استحدث برنامجاً للمساعدة الطارئة. من ضمن البرنامج، أعطى لكل عائلة 1200 دولار أميركي «من أجل المأوى والمياه وخدمات الصرف الصحي والنظافة». يومها، حققوا أول «أحلامهم»: إيجاد مرحاض «بدلاً من انتظار الليل أو اشتداد أشعة الشمس كي نقضي حاجاتنا في الهواء الطلق»، تتابع أم أحمد. ومنها أيضاً سقفوا البيوت بالخشب وأنشأوا بما تبقى منها أرضيات للنوم. وحدها رويدة لا تزال بلا مرحاض، وترد السبب إلى أنه «لأني عزباء لم أتلقّ مساعدة، وطالبت ولكن لم يعطني أحد شيئاً باستثناء الخشبات والنايلون التي عمّرت بها بيتي»، وهو ما تعارضه دانا سليمان، المتحدثة الإعلامية باسم المفوضية، مشيرة إلى أن «كل فرد تلقى الدعم اللازم».
هكذا، صار المؤقت واقعاً. بيوت تشبه ما هو قائم في نهر البارد: لهيب في الصيف ومزاريب مياه في الشتاء. غرف بلا مقومات حياة. لا كهرباء ولا مياه. ثمة شيء واحد تراه في تلك البيوت، البرميل الأزرق. هذا البرميل هو حياة اللاجئين أيضاً، منه يشربون ويستحمون ويغسلون ثيابهم ويبللون أنفسهم بمائه هرباً من الحر. وعندما تسألهم عن مصدر المياه، يشيرون إلى بيوت الجيران القليلة و«طلمبات» مياه الري في البساتين. والأكل؟ منذ خمسة أشهر، صار الأكل منتظماً، فمطلع كل شهر، يصرف الاتحاد الأوروبي «بوناً غذائياً» لكل فرد راشد. بون يستبدلونه من «دكان كنجو القريب» بالسكر والعدس والأرز والزيت. هذه تكفيهم شهراً، أو أنهم يجعلونها تكفيهم هذه المدّة «يعني نخفف شوية عدس بالطبخة وبنكتر المي». وعندما يحتاج الأمر إلى اللحم يستبدلونه بالبطاطا، حتى وصل الأمر إلى اختراع طبخات قد يحملونها يوماً ما في رحلة العودة. أما العمل هناك، فمرتبط بمواسم القطاف. مرّ موسم الأكي دنيا والكرز. واليوم ينتظرون موسماً آخر. وفي الانتظار «يعشّبون» البساتين. لكن، «ولا مرة قدرنا اشترينا دوا من هادا الشغل»، يقول أبو أحمد جابر. هذا الرجل الذي هرب بسبعة أنفار، بعدما توفي الثامن في قريته الإدلبية، لا يملك ثمن علاج ابنه وسيم. فمنذ عام، لم يتلق ابن السنوات العشر، الذي لا يزال بمقاس طفل في السنة الأولى من عمره، علاجاً لضمور دماغه. هذا الطفل الذي حظي بالصورة الشهيرة في حضن أنجلينا إيخهورست، سفيرة الاتحاد الأوروبي أول من أمس، أثناء زيارتها لهم. ربما، هي الصورة الأولى. ولكنه، كما راما، لن يراها ولن يضمها إلى الألبوم الذي لا وجود له. هؤلاء الذين فوجئوا بالغرباء الذين اقتحموا عزلتهم، سيبقون في ذاكرة الكاميرا لقطة للاجئين «سينمائيين» في فقرهم.
من علمان إلى بيصور، حيث ينفذ الاتحاد الأوروبي برنامجاً آخر يستهدف «التعليم ودعم المناطق المتأثرة بتدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان». يتغير المشهد قليلاً. فهنا، سترى أطفالاً سوريين في مدرسة بيصور الرسمية التي تنفذ برنامج التعليم النوعي لهم، على عكس أولاد تجمع بارة الذين استبدلوا حقيبة المدرسة بلعب «الطميمة والسبع حجارات». يتعلم التلامذة، وعددهم 397، على أساس برنامجين: الأول يعتمد الدمج مع الطلاب اللبنانيين، والثاني هو بمثابة صفوف خاصة لتعليم من هم خارج إطار المدرسة، وغالبيتهم من الأطفال، اللغات وعلوم الحساب، إضافة إلى العلاج النفسي بالموسيقى والترفيه. ثمة مشهد لا يمكن أن يمحى من الذاكرة، سواء أكان في علمان أم في بيصور. صور أولئك الأطفال بثيابهم التي تشي بتوقيت هربهم.



برامج الاتحاد الأوروبي لدعم اللاجئين

كان التوقيت محسوباً بعناية. عندما قررت سفيرة الاتحاد الأوروبي القيام بجولة في علمان وبيصور، حيث ينفذ الاتحاد برامج له، اختارت أن تكون الزيارة في يوم اللاجئ. بدأت الجولة في علمان كنموذج عن المناطق التي يقوم فيها الاتحاد بتنفيذ مبادرة تحت عنوان «دعم طارئ للسكان المتضررين من النزاع في سوريا وبلدان الجوار». وتبلغ موازنة هذا البرنامج 4,3 ملايين يورو، حصة لبنان منها 1,7 مليون يورو، على أن تنتهي مدة تنفيذه أواخر الشهر المقبل. ويتركز عمل الاتحاد ضمن هذه المبادرة على شمال لبنان وبيروت وجبل لبنان وصيدا كجزء من محافظة لبنان الجنوبي. وتهدف إلى «تحسين الوصول إلى مساكن نظيفة لـ2725 أسرة».
أما البرنامج الثاني (بيصور نموذجاً)، فيهدف إلى دعم المناطق المتأثرة بتدفق اللاجئين السوريين «من خلال التعليم ودعم الفئات الضعيفة، بما فيها الأطفال والنساء، ودعم المجتمع تالياً».