يروي أحد الشهود من معركة القصير قصّة لافتة عن دور البنية التحتية للاتصالات في الحروب الدائرة في هذا البلد المنكوب. خلال إحدى المواجهات التي دارت أخيراً في المدينة الاستراتيجية، تضرّر عمود إرسال للاتصالات الخلوية بعدما ضرب بقذيفة مدفعية عن طريق الخطأ.
يتحوّل الخبر إلى حديث لافت لدى معرفة أن إحدى وسائل الاتصال الأساسية التي يعتمد عليها في الحرب السورية جميع الأطراف هي الإنترنت عبر تقنية الجيل الثالث (3G) التي تبقى قوية رغم شراسة الحرب وامتدادها لفترة عامين.
«الفكرة هي أنّ الجميع يهمّهم أن تبقى خدمة الاتصالات الخلوية (في سوريا) عند مستويات مقبولة؛ وهي جيدة فعلاً. والأرجح أنّ الذي أسقط عمود الإرسال لم يكن يعرف الهدف منه أو أسقطه خطأً، وقد تعرّض لتأنيب على فعلته!» يشرح الراوي.
الاتصالات مهمّة للسوريين، ليس فقط في أرض معركتهم، بل في ملجئهم الأوّل من الصراع الدائر في بلادهم. ولعلّ عدد اللاجئين الذين يحملون الخطوط الخلوية بينهم في لبنان هو أبرز مؤشّر على طلبهم للخدمات العامّة هنا. وفقاً للبيانات المتوافرة لـ«الأخبار»، يمثّل عدد تلك الاشتراكات قرابة عشر الخطوط الخلوية الإجمالية في البلاد.
وفقاً لمدير عام شركة «Alfa»، مروان حايك، وصل عدد الخطوط العاملة على هذه الشبكة والمباعة لسوريين إلى 240 ألف خطّ، وقد تزايد الطلب عليها مع بداية 2012، بسبب ازدياد وتيرة النزوح.
ولكن حركة زيادة اشتراكات السوريين تقابلها حركة تخلّي عن الخطوط بسبب السفر أو ربما العودة إلى مسقط الرأس. هذه الحركة تجعل عدد المشتركين أصحاب الجنسية السورية على هذه الشبكة عند 125 ألفاً _ مقسومة بالتساوي بين الرجال والنساء _ وفقاً لمؤشر تسجيل الخطوط في مراكز البيع على أساس بطاقات الهوية.
هناك أيضاً بين 20 ألف خط و25 ألف خط سوري عامل على شبكة «Alfa»، عبر خدمة التجوال (Roaming)، مع العلم بأنّه حتّى الآن لا يُمكن حصر مستوى تداخل شبكتي الاتصالات الخلوية السورية مع الأراضي اللبنانية.
وبإضافة هذا الرقم، يكون عدد السوريين الذين يستخدمون هذه الشبكة اللبنانية 150 ألفاً.
اللافت هو أنّ 26% من تلك الخطوط موجودة في منطقة الشمال، تليها منطقة جبل لبنان (باستثناء الضاحية الجنوبية لبيروت) بنسبة الربع، ثمّ البقاع بنسبة 17.5%، فالضاحية بنسبة 15%، فيما تبلغ حصّة بيروت 5% من إجمالي الخطوط المحمولة من قبل سوريين. وتؤكّد مصادر وزارة الاتصالات أنّ منطقة الشمال لم تكن تُصنّف قبل الأحداث في مصاف المناطق التي تسجّل الطلب العالي على الاتصالات. «رغم هذا العدد الكبير، تعمل شبكتنا على نحو طبيعي»، يشرح مروان حايك. أما الضغط الإضافي المسجّل في الشمال فلا يزال مقبولاً ويجري الإعداد لاحتواء أي زيادة إضافية تطرأ عليها، عبر تمديد وصلة إضافية في المحافظة.
وتؤكّد شركة «Touch» أنّ أداء شبكتها لم يتأثّر بدوره بتدفّق اللاجئين السوريين، مع ملاحظة أن النازحين «أبدوا اهتماماً بشراء الخطوط المسبقة الدفع المخصصة لإجراء الاتصالات الدولية، للسماح لهم بالاتصال بوطنهم بكلفة مخفضة».
وفيما يتحفّظ القيّمون على «Touch» عن الإفصاح عن العدد الدقيق للمشتركين السوريين على الشبكة التي تديرها، يُقدّر الخبراء في القطاع أنّ يكون نفسه تقريباً _ أو أعلى قليلاً _ من الرقم المسجّل لدى «Alfa».
هذا يعني أنّ عدد المشتركين السوريين الإجمالي على الشبكتين يبلغ 300 ألف مشترك في الحدّ الأدنى، ما يمثّل 8% في الحدّ الأدنى من إجمالي المشتركين المسجّلين في لبنان. غير أنّ المشكلة لا تنحصر فقط في الضغط الطبيعي، إذ أدّت جولات الصراع العسكري في مدينة طرابلس ومحيطها أخيراً إلى تضرّر أجهزة الإرسال والتقوية في أكثر من مرّة، وهذا يعني إعادة توجيه للجهود لمعالجة مشكلة عوضاً عن استثمارها في تكثيف العمل الطبيعي على تطويرها.
بموضوعية، لا تخيف هذه الأرقام بقدر ما تُعدّ مولّدة للأعمال والأرباح في قطاع الاتصالات. فانطلاق طلب السوريين الكثيف على خدمة الخلوي في لبنان تزامن مع المضي قدماً في تطبيق مخطط تحسين الجودة للقطاع وتحسين مؤشراته. لذا، فإنّ السؤال يُصبح معكوساً، وفقاً لما يطرحه أحد الخبراء بسخرية، «ماذا ستفعل الشركتان عندما ينتهي الصراع في سوريا ويعود النازحون إلى بلدهم؟»، في إشارة إلى أنّ خسارة 300 ألف مشترك لها وقع فعلي، «وبالتالي يُمكن التساؤل عن كيفية استمرار الاستفادة من السوريين بعد رحيلهم، وتعويض الفراغ الذي سيولّدونه».
غير أنّ الأزمة السورية لن تنتهي قريباً على الأرجح. وإذا كانت المعطيات إيجابية في قطاع الاتصالات، تبدو مقلقة في القطاعات الأخرى التي تشكّل عصب الخدمة العامّة.
وقد أشار البنك الدولي في تقريره الدوري الأخير حيال لبنان عن «تصاعد التوترات في اقتصاد مرن»، إلى هذه المخاوف، حيث قال إنّ تدفق اللاجئين السوريين يؤدّي إلى «إلى المزاحمة في الحصول على الخدمات العامة». تلك الخدمات كانت أساساً عند مستويات هشّة، وتحديداً الكهرباء. فهذا القطاع بدأ يترقّب نتائج الاستثمارات التي انطلقت خلال فترة العامين الماضيين، بانتظار الوصول إلى تأمين شبه كامل للطلب في عام 2015.
ووفقاً لوزارة الطاقة، فإنّ الطلب الإجمالي حالياً يبلغ ثلاثة آلاف ميغاواط «لعدة أسباب أبرزها النزوح السوري». ولكن رغم ذلك، تُبشّر الوزارة بتسجيل التغذية الكهربائية مستوى قياسياً ببلوغها 16 ساعة هذا الصيف.
تبقى إذاً المخاوف الأخرى التي أثارها البنك الدولي في تقريره: التحدي اليوم هو «مساعدة المجتمعات المضيفة بهدف تقليص المخاطر والتصدي للتحديات التنموية التي بدأت تتضاعف».