لم تشهد مستشفيات لبنان خلال السنوات الماضية عدداً كبيراً من المرضى كالذي تشهده حالياً. نسب إشغال الأسرّة مرتفعة جداً في كل المناطق، إلا أنها بلغت طاقتها القصوى في مستشفيات البقاع والشمال. مصدر الطلب الإضافي في هذه السوق هو السوريون، سواء كانوا نازحين أو جرحى مصابين في المعارك في بلدهم. هذا الطلب فاقم مشاكل التغطية الاستشفائية في لبنان. في السابق، كانت المؤسسات الصحية تدير هذه التجارة وتغرف من أموال الهيئات الضامنة مثل الضمان الاجتماعي ووزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة والمؤسسات الأمنية والعسكرية...
أما اليوم، فقد انضمّت هيئات أمميّة ومنظمات دولية وجمعيات خيريّة وإسلاميّة تقف وراءها دول نفطية، إلى مصادر الغرف الجديدة. الجهات الجديدة تموّل استشفاء النازحين السوريين، وهو ما أدّى إلى ازدهار تجارة الاستشفاء وظواهر «النصب» على هامشها.
يروي المطلعون على القطاع الصحي، أن وجود النازحين السوريين في لبنان يضع أعباءً كبيرة على خدمات الاستشفاء والطبابة لكونها خدمات ذات طابع إنساني وتجاري كلفتها متفاوتة بحسب أنواع المرض ومختلفة بحسب مصادر التمويل. نسبة وجود السوريين في مستشفيات الشمال والبقاع تتجاوز 40%، أما في بيروت فسقفها هو 25%، وبنسب أقلّ جنوباً. هذا التفاوت ناجم عن تمييز بين فئتين من المرضى: النازحون السوريون المصابون بأمراض القلب والكلى والسرطان والولادة أو بأمراض تجد بيئتها الحاضنة ضمن المخيّمات الجماعية... والسوريون الذين أصيبوا خلال المعارك الدائرة في سوريا، وهم جرحى نقلوا إلى لبنان لتلقي العلاج المناسب.
إلى جانب هاتين الفئتين، توجد فئة ثالثة هم السوريون الذين لا ينطبق عليهم توصيف النازحين المدنيين، وليسوا مقاتلين في المعارك، لكنهم أتوا إلى لبنان وحصلوا على بطاقات نازحين من منظمة الأمم المتحدة للاجئين (UNHCR) للحصول على خدمات صحية.
في الأشهر الماضية، رصدت منظمة الأمم المتحدة مبلغاً وسطياً قيمته 1500 دولار لاستشفاء وطبابة الفرد الواحد من النازحين السوريين المسجّلين لديها... لكن حتى الآن تراكمت عليها مستحقات بقيمة 1.2 مليار ليرة لحساب مستشفى بيروت الحكومي الجامعي. وزارة الصحة لم تنخرط في تمويل أمراض النازحين بسبب عدم توافر الأموال اللازمة لهذا الأمر، لكنها تكفّلت بعلاج نحو 500 حالة غسل كلى، فيما بدأ الطلب الواسع يتحوّل إلى «إحراج إنساني»، فطلبت وزارة المال مبلغ 150 مليون دولار من البنك الدولي لتمويل كلفة علاج النازحين عبر وزارة الصحة. أما الجرحى والمقاتلون، فكلفة علاجهم تدفع نقداً بواسطة جمعيات خيرية وإسلامية غالبيتها يتبع لدول خليجية مثل الكويت وقطر والسعودية. على سبيل المثال، تغطي جمعية «ائتلاف» كلفة علاج المقاتلين في مستشفى عبد الله الراسي بأموال مصدرها قطر، وسداد الفواتير يكون نقداً بين مدير المستشفى والمسؤولين في الجمعية، ما خلق هامشاً من القدرة على «نفخ» الفواتير... هكذا ازدهرت التجارة الصحية في المستشفيات الخاصة والعامة.
يقول المطلعون إن التمويل المخصص لأعمال الإغاثة الصحية والاستشفائية للنازحين السوريين بدأ يتناقص مع ارتفاع وتيرة الحديث عن وجود تلاعب وغشّ في الفواتير التي تدفعها المنظمات الأممية. فالازدهار الذي تعيشه المستشفيات اليوم سببه الرئيسي كمية الأموال المرصودة لعلاج هؤلاء، التي «بدأت تتناقص» على حد تعبير أحد مديري المستشفيات في بيروت. وبحسب مسؤول في مستشفى شمالي، تبيّن أن التدقيق في الفواتير التي تدفع عن الجرحى والمقاتلين والنازحين يكشف عن «نفخ» في الأكلاف وزيادة أعداد المرضى وعدد المعاينات... لا بل يكشف عن وجود حالات غير واقعية. ضبط هذه الأكلاف كان شبه مستحيل على الجهات الضامنة اللبنانية خلال حالات الانتظام العادية، فهل يمكن جهاتٍ غير رسمية أن تضبط هذه التجارة في ظل حالة الفوضى والتمويل المتدفق لتغذية الحروب!
ويشير مسؤول رسمي في قطاع الصحة إلى أن الطلب على الخدمات الاستشفائية ارتفع هذه الأيام، لكن ليس من جيوب السوريين، بل على عاتق جهات أممية وبعض الدول المشاركة في قرار الحرب في سوريا... وظهرت حالات شاذة تنشأ على حساب حالات إنسانية تتطلب تدخلاً فاعلاً وإنقاذاً سريعاً، لكن لا أحد لديه القدرة على التمييز بين النازح ومن يأخذ العلاج من أمام الفقراء الذين دمرت منازلهم وهجروا من أراضيهم.