لا يمكن وصف ما تقوم به شركة «كارادينيز» التي تدير باخرة «فاطمة غول» بأقل من «وقاحة». يستخدم بعض المعنيين مصطلح «احتيال» لأنه «توصيف أدقّ». المشهد لا يحتاج إلى الكثير من الإنشاء، بل إلى الوقائع: توقفت مولّدات الباخرة عن إنتاج الكهرباء لمدّة 45 يوماً ابتداءً من 22 نيسان. السبب، كما أدعت به «كارادينيز»، هو مواصفات الفيول المستعمل في عملية الإنتاج. هذه الشركة ترفض تحمّل هذه المسؤولية. الأنكى من ذلك، أنها تملك ما يكفي من الوقاحة لمطالبة الدولة بسداد ملايين الدولارات كفواتير عن فترة التعطيل... هل يتمكن ديوان المحاسبة من كشف القصّة الكاملة لما يُسمّى «عملية الاحتيال»؟ هل تسمح الوصاية السياسية على الديوان بكشف الوقائع وإعلانها أمام الرأي العام؟
هذه المهمة، رغم صعوبتها، قد لا تكون مستحيلة. فبحسب مصادر مسؤولة في ديوان المحاسبة، إن التحقيقات التي ستُجريها لجنة مؤلّفة من القاضيين رمزي نهرا ولينا حايك والمراقبين ضيا نور الدين ومريم الحجار، ستذهب حتى النهاية في سبر أغوار هذه القضية وبنود العقد الموقع بين الطرفين، وصولاً إلى تحميل المسؤوليات وفق ما تقتضيه القوانين.
وتشير المصادر إلى أن الديوان يحمل «كارت بلانش» سياسي في إدارة هذه التحقيقات وكشف حقائق هذا الملف، ولا سيما أن الجهات الأخرى التي أجرت تحقيقاتها لم تتوصل إلى نتيجة حاسمة بعد، بسبب العرقلة أو بسبب وجود خطوط حمر ورجحان كفّة الميزان في العقد لمصلحة الشركة.
وبحسب الرواية التي اطلع عليها فريق التحقيق لدى الديوان، يرفض ممثلو الشركة تحمّل أي مسؤولية عما حصل بالنسبة إلى الفيول. وعندما أظهر الديوان نسخاً من المحاضر الموقّعة من الشركة، التي توافق بموجبها على استعمال الفيول بالمواصفات المذكورة ضمن المحاضر نفسها، ارتبك ممثلو الشركة ليردّوا لاحقاً بأن توقيعهم على المحاضر جاء لتسهيل المهمة قبل أن تصدر نتائج المختبر... طبعاً هذا الجواب لم يكن مقبولاً ولم يقنع أياً من أعضاء فريق ديوان المحاسبة، بل هو يعني أمراً واحداً، هو أن الشركة وافقت على استخدام نوعية الفيول التي أدّت إلى تعطيل المحرّك لاحقاً، وبالتالي تقع مسؤوليتها في هذا الإطار.
وعندما سئل ممثلو الشركة عن الفترة المحتملة لصيانة الأعطال خلال الفترة الماضية، ولا سيما أن فترة إصلاح أعطال الفيول استمرّت لمدّة 45 يوماً، فهل يتكرر مثل هذا الأمر؟ الإجابة جاءت التفافية استعملت فيها الأمور التقنية للتهرّب من إجابة مباشرة؛ إذ عمد ممثلو الشركة الرد من خلال شرح مدى الضرر وحجم الأعطال التي سببتها الفيول المستعمل سابقاً.
هذه خلاصة الرواية التي حصل عليها فريق التحقيق لدى ديوان المحاسبة. هي رواية لا تضيف حتى الآن أي جديد إلى ما هو معروف عن الأيام الأولى لبدء إنتاج الكهرباء على متن «فاطمة غول» ولا توضح طبيعة ما حدث ومدى ملاءمته لبنود العقد الموقع بين الشركة ووزارة الطاقة؛ إلا أن للشركة رواية غير معلنة تزيد كلفة الأيام الـ45 على لبنان. فقد قالت مصادر الشركة لـ«الأخبار» إن مسؤولية الخطأ الذي حصل بالنسبة إلى نوعية الفيول أويل «لا تتحمل مسؤوليته الشركة وفق ما يرد في نصوص العقد. وبالتالي، يجب على الدولة سداد كامل المبالغ المتعاقد عليها عن فترة التوقف عن العمل». وكشفت هذه المصادر عن أن الشركة أرسلت فواتيرها كالمعتاد إلى الإدارة المعنية وقد بلغت قيمتها 8 ملايين دولار منذ تاريخ التوقف حتى تاريخ إعادة التشغيل.
في المقابل، لا تؤكد ولا تنفي مصادر وزير الطاقة جبران باسيل، هذه المعلومات، بل تشير إلى أن «وزارة الطاقة ليست في هذه الأجواء، ولا الشركة التركية أيضاً... الوزارة لن تسدّد أي مبالغ عن فترة تعطيل». هذه الإجابة قد تحتمل الكثير من التفسيرات، باستثناء الجزء الثاني منها، أي إن الوزارة لن تسدد الفواتير، إذ إن مؤسسة كهرباء لبنان هي الجهة الوحيدة التي أنجزت تقريراً تحمّل فيه مسؤولية ما حصل للشركة التركية، وهو الأمر الذي دفع الشركة إلى «وضع تقرير مناقض تماماً يحمّل المسؤولية للجانب اللبناني»، وفق ما تبلّغ به فريق ديوان المحاسبة أمس من ممثلي الشركة التركية.
وإلى جانب تقرير مؤسسة كهرباء لبنان، تقول مصادر التفتيش المركزي إن تقريره بشأن الباخرة والعقد مع الشركة التركية، الذي سينجز خلال الأسبوعين المقبلين بعد تأخر، سببه مماطلة وزارة الطاقة في تسليم التفتيش المستندات المطلوبة، يذهب في نسخته الأولية نحو «تغريم الشركة التركية لأنها خالفت العقد».
وبحسب معلومات متقاطعة، سيعمد فريق ديوان المحاسبة خلال الفترة المقبلة إلى التدقيق في موضوعين حساسين في ما خصّ العقد الموقّع مع الجانب اللبناني. الموضوعان يتشابهان في إشكاليتهما. فالأول يتعلق بالكفالة، والثاني يتعلق بما نص عليه العقد لجهة سحب مبالغ من الاعتماد من دون الرجوع إلى مؤسسة كهرباء لبنان. فالعقد يتيح للشركة التركية سحب مبالغ من الاعتمادات المرصودة من دون أوامر من الجهة التي تنفذه، وإذا لم تتوافر مبالغ مالية في هذا الاعتماد، يحق للشركة وخلال 15 يوماً أن تلغي العقد على عاتق الدولة اللبنانية. أما آلية فضّ النزاعات، فهي تبدأ بلجنة رباعية تتمثّل فيها الدولة اللبنانية بعضوين و«كارادينيز» بعضوين، وإذا لم تعالج المشكلة، يلجأ الطرفان إلى الاستشاري، وإذا لم تُحَلّ يلجأ الطرفان إلى التحكيم في لندن... هذه الآلية هي نفسها معتمدة بالنسبة إلى «الكفالة» التي تعدّ شروطها ضدّ مصلحة الدولة اللبنانية التي لا يمكنها مصادرة الكفالة إلا بعد اللجوء إلى اللجنة ثم الاستشاري ثم التحكيم... فما الهدف من هذه الكفالة التي يجب أن تكون بمثابة ضمانة لتطبيق العقد من قبل الشركة التركية؟
حتى الآن، إن نيات الشركة التركية واضحة، وقد بدت أكثر وضوحاً صباح أمس حين وفدت لجنة ديوان المحاسبة إلى معمل الذوق حيث ترسو «فاطمة غول». فقد تبيّن أن الشركة التركية لم تستقبل هذه اللجنة التي تلمّست طريقها مشياً بين طرقات المعمل لتصل إلى مكان الباخرة، وهو أمر أثار استياء رئيس اللجنة القاضي نهرا الذي قال: «أبلغناهم قبل أيام بقدومنا». بعض أعضاء اللجنة يتذكر بوضوح السيناريو الذي جرى في باكستان مع الشركة التركية نفسها، هو نفس السيناريو الجاري اليوم مع لبنان، ولا سيما مع تأخّر وصول الباخرة الثانية.