في ليلة وصباحها (الثلاثاء والأربعاء الفائتين) أقدم تكفيريون مختلطو الجنسيات يقودهم كويتي، على ارتكاب مذبحة بحق ستين مدنياً من عائلات بلدة حطلة في دير الزور؛ كان نداء الذبح علنياً في المكان، وأراده المجرمون كذلك في كل مكان، فنشروا شريطا للاحتفال بتطهير البلدة من الشيعة على اليوتيوب، منتشين بقتل رجل دين وولده، ومعتبرين المذبحة انتصاراً للإسلام، وانتقاماً أول من هزيمة القصير. (لم تشهد القصير أيّ مذبحة، بل قتالاً. وحتى مقاتلو «النصرة» سُمح لهم بالفرار الآمن)
تساءلت، وأنا أشاهد الشريط الفظيع، عما إذا كان هناك أمل لمشروع المشرقية الجديدة الذي نطرحه كبديل تاريخي عن فشل المنطقة التنموي وتصدّعها الاستراتيجي وصراعاتها الاثنية والطائفية والمذهبية والجهوية؟ وهو سؤال مطروح للبحث عن مخارج عقلانية من الهوَس الإجرامي لجماعات من المرضى النفسيين الموصوفين لدى الغرب كـ «معارضة»، والذين لا يزالون يحظون بتأييد ما، ربما محدود ولكنه مهووس أيضاً، من جمهور يبارك المذابح المذهبية. ولا يمكننا أن نغضّ الطرف، بالطبع، عن أولوية الصراع المذهبي على الصراع الوطني عند الحمساويين. ولكن، علينا ألا ننسى أن هؤلاء هم، في البداية والنهاية، من الإخوان المسلمين.
لا يمكننا القبول بفكرة أن الحرب الطائفية والمذهبية، قد تأسست وتجذرت في سوريا والعراق ــــ بحيث تلغي تراث المشرق المعروف من التعددية في الوحدة ــــ ليس لأن تلك الفكرة بشعة فقط، بل لأنها غير صحيحة، أيضاً. هناك، بالطبع، فئات اجتماعية متخلّفة ترى في مقاتلي «النصرة» و«القاعدة»، ممثليها السياسيين والنفسيين، ولكن الكتلة الرئيسية من سُنّة المشرق، لا تزال بعيدة عن الانخراط في المشروع الوهّابي. الوهّابية والتكفيرية، بعقائدها المتهوّدة وعدائيتها للإنسانية وفتاواها ومقاتليها، ليست سوى غزوة خليجية، منظّمة ومموّلة ومدعومة من الحكّام السعوديين والقَطريين وحماتهم الأميركيين والأوروبيين. وكما يحدث دائماً، يجد الغزاة، في المجتمعات المحتلّة، مَن يقلّدهم أو يخشاهم أو ينساق معهم.
لكن، سيصيبك الصداع لمجرّد تداول المعلومات عن ضلوع جماعة حسن عبدالعظيم، رئيس «هيئة التنسيق» الموصوفة بالوطنية والديموقراطية، بأن ذراعها العسكري الكردي يحاصر بلدتي نبّل والزهراء، ويفاوض على تسليمهما للتكفيريين مقابل بلدة كردية! هل هذا صحيح يا هيثم منّاع؟ وإذا كان ذلك ادعاءً، فأين غضبك، وغضب «الهيئة»، إزاء مذبحة حطلة؟
في الشريط، توعّد تكفيريو دير الزور، بأنهم قادمون إلى تينك البلدتين المحاصرَتين بالذات، لذبح أهاليهما، فهل ينبغي لحزب الله أن يغض الطرف عن مذابح جديدة معلَنة، لئلا يسهم الدفاع عنهما بالمزيد من التوتر المذهبي؟ هل ينبغي للشيعة أن يُذبَحوا بصمت ووقار و«شعور عال بالمسؤولية»؟ وهل ينبغي لحزب الله، كما يريد بعض الشيعة، أن يكفّ عن ممارسة دوره الاستراتيجي في دعم ولحم محور المقاومة، لكي تكفّ العنصرية الخليجية عن طرد أبناء الطائفة من وظائفهم ومغترباتهم الاضطرارية؟
صوت أحد المجرمين، في شريط حطلة يصرخ فرحا متشنجا: «الله أكبر... حرقنا بيوت الروافض المرتدين الشيعة... النصارى»! في هذا التهليل، ما هو أكثر من الاستنتاج البسيط بأن رقاب النصارى مطلوبة للانتقام الحالي أيضا؛ فبالنسبة للغزاة الوهّابيين التكفيريين، لم يعد هناك تمييز بين الشيعة والمسيحيين، المطلوب إبادتهما معا في مشروع التطهير الديني. فهل تقف المذابح عند حدود سياسية؟ هل ستقتصر على سوريا، أم أنها ستمتد إلى لبنان والأردن وفلسطين؟ (في العراق، أنجز التكفيريون معظم المهمة!)
يقاتل المسيحيون السوريون ـــ كالسنة والعلويين الخ ـــ في إطار الجيش العربي السوري وقوات الدفاع الوطني، بوصفهم مواطنين أولاً. بل لعله من حسن الحظ أنه لا توجد تعبيرات سياسية مسيحية خاصة خارج التركيبة السياسية الوطنية في بلاد الشام، لكن الاستثناء اللبناني يحتاج إلى وقفة؛ هنا، حيث توجد قوى ومنابر مسيحية معلنة، لم يجرؤ أحدٌ منها بعد، على اسباغ تأييد سياسي صريح على مشاركة حزب الله، الشرعية والضرورية والشجاعة، في صدّ الغزوة الوهابية التكفيرية عن بلاد الشام.
في صلب كل التحليلات، كان الغطاء السياسي الذي قدّمه التيار الوطني الحر للمقاومة، في الحرب الدفاعية ضد العدوان الاسرائيلي في 2006، أساسيا لانتصار الطرفين ولبنان كله؛ فأين ذلك الغطاء السياسي للحرب الدفاعية التي يخوضها حزب الله، اليوم، ضد جماعات الذبح المذهبي والطائفي على مشارف لبنان، وربما، غداً، داخله؟
تحتاج اللحظة الراهنة من الصراعات المتشابكة المريرة، إلى جرأة تاريخية لا تلوذ، أقله، بالصمت، وتفتح الباب أمام الشراكة الندية في مستقبل المشرق.