دمشق - مع ازدهار الفوضى في الأماكن الساخنة، يبتكر السوريون تصاريف للبضائع «الداشرة»، التي خلّفتها مناطق المعارك الطاحنة بين أطراف الصراع على خريطة الأزمة السورية.
وتلك البضائع تجد لها سوقاً على مقربة من ساحة «المرجة» وسط دمشق قرب جسر «الثورة»، حيث تمتد بسطات عشوائية لبيع الأدوات المستعملة ومخلفات الحرب من لوازم منزلية. يسمّى المكان «سوق الحَرميّة»، حيث تجد كلّ شيء يخطر على البال من إبرة الخياطة الصغيرة، وصولاً إلى المفروشات. في ما مضى، كان هذا المكان لبيع الخضر فقط، قبل أن تنتقل البسطات إلى «سوق الهال» الضخم في منطقة الزبلطاني. وكانت محدودية بيع الأشياء المستعملة من مسروقات وممتلكات شخصية محصورة ببعض الأمتار تحت عين الدولة، لكن مع تفاقم الحال السوري وجد هؤلاء فرصة لتوسيع النشاط التجاري العشوائي، حتى أصبح للسوق سمعة «البضاعة الرخيصة»، وأحياناً «منبع الأنتيكا» أو «سوق الدرويش».
قبل الأزمة لم يكن هنالك ضرائب تدفع مقابل هذه البسطات، ولا تطالب السلطات الاقتصادية أصحاب العربات الخشبية بالتوقف عن البيع في ساعات معينة. هو قطعة أرض من دمشق تغصّ بالحياة والانتظار. اليوم يمكننا أن نشاهد تكاتف البسطات بعضها قرب بعض على قواعد خشبية مهترئة، وبضائع أخرى تفترش الأرض حسب حجم الأدوات المعروضة. يمكنك أن تشاهد جبلاً من الثياب قرب أشرطة «كاسيت» تسند إلى «سحارات» مليئة بالهواتف والتلفزيونات المحطّمة، وبعض أجهزة الجوال القديمة، بينما يشدو من مدخل السوق صوت مطرب «الكراجات» الشهير «محروس الشغري».
في ركن آخر من السوق، تفوح رائحة الأرياف مع صور لنساء عاريات ملصقة على طاولة مكتب معدنية، يجلس خلفها يحيى، صاحب ركن بيع الأفلام الإباحية. «تجارة رابحة، نسخ الأفلام الإباحية وبيعها بخمسين ليرة سورية... يومياً هنالك العشرات يشترونها. الناس بالأزمة ما بقي عندها غير هالشغلة تنبسط فيها يمكن!»، يقول وهو يصرف نظره إلى زبون جديد.
في الركن الموازي، يقترب جندي من الحاجز عند جسر الثورة ليتحادث مع بائع الكحول الرخيصة، الذي اتخذ هو الآخر ركناً ورفع أشرعته لعرض مشروباته على العابرين. هذا البائع هُجّر من دير الزور منذ أكثر من سنة، يروي لـ«الأخبار» صعوبة العيش في قساوة الاقتصاد الجائر الممسوك بيد التجار الكبار. «هذا المكان للنوم والعمل معاً، بعت ذهب زوجتي بـ75 ألف ليرة سورية منذ نزحت إلى هنا، واشتريت من هذا السوق براداً مستعملاً، لأبيع أخيراً أنواعاً رخيصة من الكحول، صناعة وطنية»، يضيف. يخاف الرجل أن يذكر اسمه، لكنّه على تماس يومي مع جنود حاجز جسر «الثورة». هكذا تشاهد نموذجاً مثالياً للسوري البسيط الذي لا يهتم لشيء، حتى إن «قامت القيامة». يستطيع أن يجد له فرصة للحياة، تماماً كما حدث مع أحد كبار السن الذي يقطن على سرير نوم، ارتفعت فوقه خيمة صغيرة، وافترش أمامه أشياء لا يمكن أن تجد منها منفعةً، ساعات مهترئة، وثياب بالية، ونتف أغطية وبعض البراغي. يداعب هذا العجوز قطة تقاسمه وحدته وقطيعته عن العالم، ولسان حاله يقول: اتركوا لي هذه الفسحة الضيقة لأعيش دون خوف.
يمتد السوق في إحدى حاراته إلى تجمّع بسطات الخضر والفواكه من مختلف الأصناف. ويبيع أصحابها هناك بسعر الجملة. يقتصر ربحهم على بعض الليرات؛ لأنهم لا يملكون محالّ نظامية وساعات كهرباء وعدادات ماء.
«كلو من قريبو»، على رأي المثل الشامي. بيع كثير وربح مناسب. لا يكلفهم مجهوداً ومالاً كثيراً؛ فسوق «الهال» قريب من المنطقة، ويمكن التبضع في أي وقت وتحت أي ظرف. رغم ارتفاع أسعار الحاجات الغذائية والأدوات في أسواق دمشق الرخيصة منها والمترفة، يبقى «سوق الحرمية» المكان الأكثر غرابة ورخصاً (بالمعنى المادي). خليطه الاجتماعي ازداد تعقيداً مع توافد النازحين وأصحاب البسطات من جنوب العاصمة، حيث تدور المعارك في الحجر الأسود، والسبينة، والدحاديل... من فقد بيته هناك وجد في هذا السوق بعض قطع القماش والبطانيات و«الشوادر»، لتصبح حياته مرتهنة بالعوامل الجوية كبدو الصحراء. «أحلق للزبائن العاملين في السوق في هذا المكان، لا يمكنني أن أسميه محلاً، لكن ماذا يمكن أن أبيع في سوق الحرمية وأنا حلاق؟»، يروي أبو فهد (اسم مستعار)، الذي استطاع أن ينقذ «عدّة» عمله من الدمار، لـ«يحلق» لأصحاب البسطات والعابرين هنا.
المفارقة الكبيرة أنّ مدخل دمشق القديمة يتربّع على جزء هذا السوق، لكن شيئاً غير مفهوم يجعل الحكومة السورية تسمح لهذا الامتداد التجاري الفوضوي بالتوسع.
ربما كان سوء الحال هو الدافع خلف ذلك. يقول البعض: «لم تؤثر الأزمة كثيراً على عمل السوق، بل افتتح في الأطراف بسطات لبيع النحاسيات والأنتيكا الثمينة». والسؤال هنا، إذا وجدنا مطحنة قهوة تقليدية مثلاً، تعود لمئة عام، فكيف وصلت إلى هنا بسعر غالٍ كالذي يفرضه بائعو «سوق الحرمية» كأنهم في المتحف؟ جزء من التراث هنا برسم اللصوص في مكان آخر خارج السوق!
نسبة كبيرة من السوريين تتردد إلى «أسواق الحرامية» في كل مدن البلاد، بحثاً عن الأسعار الرخيصة والقطع «اللقطة»، التي تساوي «ثقلها ذهب»، كما يقال. تجدهم أفواجاً منذ الصباح الباكر يتوجهون «لاستنظاف» قطعة ثياب من البالة، أو لاصطياد قطعة أثاث قادمة للتوّ من إحدى المناطق الساخنة. والطريف أنّ أحدهم كان يبيع جهاز تلفزيون حديث بشاشة مسطحة، طلب مبلغاً بسيطاً مقارنة مع تقنية الشاشة ونوعيتها وحين تمّ البيع، قدّم له البائع هدية صغيرة معلقاً: «خذ هذا التلفزيون الصغير بألفي ليرة». لم يكن يعرف البائع أن هذا «التلفزيون الصغير» هو الجهاز المتطور «آي باد»! رغم ذلك، يبحث السوري يومياً في «مول الفقراء» عما «يرمّم» به مفقوداته المسروقة أو المحروقة في لحظات حرجة من الحرب.
«مزراب دمشق الاقتصادي... هيك بيسمّوه تجار الحريقة ومدحت باشا والحميدية... بيتمسخروا عليه وعلى زواره وشغيلته، بس هذا على قدنا»، يعلق أبو أحمد، الذي يمتلك بعض بسطات بيع الثياب المستعملة. «هؤلاء الكبار لم يتركوا لنا شيئاً، هم يلعبون بأسعار الدولار، ويحتكرون البضائع، ولا يحاسبهم أحد، كأنهم شركاء في خنق المواطن وجعله يزداد ذلاً وحرماناً»، يضيف الرجل الخمسيني. في وقت يجد فيه قصي، الذي يضع بعض الهواتف المحمولة المستعملة فوق صندوق بلاستيكي وسط السوق، أنّ ملاحقات الشرطة للبائعين انقرضت. «اليوم المهم لا تطلع مظاهرة ولا تحمل سلاح ضد الحكومة. ساوي شو ما بدك... تبيع مسروقات ومازوت وغاز وخبز. ما حدا بيحكي معك»، هكذا يلخّص الشاب القادم من مخيّم الوافدين مع مجموعة من أصدقائه لبيع الهواتف محمولة، يروي أنّ مصدرها هو «محلات في مخيّم اليرموك... والمخيمات بتمون على بعضها»!