تسلك الدولة اللبنانية ــ حكومة، ورئاسة جمهورية ــ سياسة «النأي بالنفس» تجاه الأزمة السورية. وهي سياسة تكاد تكون من ثوابت الكيان اللبناني منذ ولادته عام 1920، لولا الشوائب وعمليات «الشانتاج» والنفاق التي رافقته في السابق وترافقه حالياً. هذه السياسة المتبّعة تجاه سوريا منذ ربيع 2011 ليست من بنات أفكار الحكومة اللبنانية لمواجهة حدث طارئ، بل هي في صلب السياسة اللبنانية في كيفية تعامل بيروت مع المنطقة ونزاعاتها.
وهذه السياسة رافقت الإمارة اللبنانية منذ القرن السادس عشر، وبالتحديد منذ معركة مرج دابق عام 1516 بين الجيش العثماني والجيش المصري، عندما راقب اللبنانيون سير المعارك ثم وقفوا مع الطرف الرابح. ومن تفسيرات سياسة النأي بالنفس قول داوود عمون في العشرينيات من القرن العشرين أنّه «عند تغيير الأمم احفظ رأسك». ويبدو أنّ لبنان الرسمي يعتقد أنّ ما يحدث في سوريا هو عملية تغيير أمم.
وحياد لبنان الرسمي تأكّد في الحروب العربية الإسرائيلية وفي حياده تجاه الخلافات العربية ــ العربية. حتى إنّ البعض يزعم أنّ إسرائيل احترمت «حياد لبنان» منذ 1948 حتى 1968، لكن مجيء المقاومة الفلسطينية إلى جنوبه دفعته مرغماً إلى دخول معمعة الصراع، ما جلب الغضب الإسرائيلي عليه وأوصله إلى حرب لبنان 1975. وأنّ لبنان خسر دوماً عندما اختلف العرب فيما بينهم (صراعات سوريا والعراق على أراضيه في السبعينيات، ونزاعات مصر والسعودية في الستينيات، إلخ).

نسخة مشوهة للنأي بالنفس

بين لبنان وسوريا منذ 1991 معاهدة «الأخوّة والتعاون والتنسيق» التي نصّت على أن لا يكون لبنان مصدر قلق لسوريا، إذ جاء في المادة الثالثة: إن الترابط بين أمن البلدين يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا، وسوريا لأمن لبنان، وأن لا يسمح لبنان بأن يكون ممرّاًَ أو مستقرّاًَ لأي قوة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه وأمن سوريا.
لكن في تطبيق سياسة النأي بالنفس تجاه حرب سوريا كمن الشيطان في التفاصيل، كما في بوليصات التأمين، إذ إنّ مستشاري رئيسي الجمهورية والحكومة الذين يجمعون المعلومات ويقومون بالاتصالات الخارجية، أقنعوهما بنسخة معدّلة من الحياد اللبناني، بأنّ سياسة النأي بالنفس ستكون أكثر فائدة لو وُضِعت في إطار سلبي تجاه الدولة السورية، وصمتت عن الجماعات المسلحة. وبالفعل فإنّ لبنان الرسمي مارس الصمت حيال نشاط الجماعات المسلّحة فوق وعبر الأراضي اللبنانية، وغضّ النظر عن دعم جهات لبنانية على نحو سافر لجماعات داخل سوريا بالمال والرجال. وفوق ذلك لم يوفّر لبنان الرسمي غطاءً سياسياً واضحاً لدور الجيش اللبناني في عكار وطرابلس وعرسال، ما عطّل دوره إلى حدّ بعيد، وهو الرمز الأكبر للسيادة الوطنية. فبدا تناقضاً صارماً أن يخذل لبنان الرسمي قواه الشرعية.
حياد سلبي كهذا، بنظر المستشارين، يخدم «المصلحة الوطنية» اللبنانية، لأنّه يوصله إلى بر الأمان مع الدول العربية المحافظة ويتماشى مع وجهة البوصلة الأميركية التي على لبنان أن يكون معها. وما شجّع هذا الاتجاه الرسمي أنّ من يجمع المعلومات لرئيسي الجمهورية والحكومة قدّمها ضمن معطيات تشير إلى قرب «سقوط النظام»، ما جعل سياسة الحياد السلبي ليست مقبولة فقط، بل أيضاً لا بديل عنها. والويل للبنان إذا لم يلتزم فيدفع ثمناً باهظاً في اقتصاده وعمّاله في دول الخليج وسياحته ومصارفه، وسيعاقب عقاباً قاسياً «ليلة سقوط النظام». ومن المحتمل أنّ لبنان الرسمي مقتنع تماماً بأنّ أسلوب تطبيقه للسياسة في مصلحة لبنان.

حياد سلبي خطر على لبنان

لكنّ سياسة لبنان أصبحت تشبه ملكاً ينام في سريره ويشدّ اللحاف صوبه فتسأله الملكة عما به، ويجيب: «أنا أنأى بنفسي». فتردّ: «أنت تسحب الغطاء عني بدل سحبه عن المسلح الذي ينام على جانبك الآخر من السرير وتدّعي أنّك لا تراه».
ليس فقط أنّ لبنان الرسمي يمارس نأياً مخادعاً، بل أنّ أقطاب السياسة اللبنانية يعلنون مواقف حادة من أزمة سوريا، ويرسلون المقاتلين والسلاح ويفتون بقتل «الذين يقفون مع النظام»، ويقفون مع «جبهة النصرة» التي أعلنت ولاءها لأيمن الظواهري. ومعظم الاعلام اللبناني يمارس التحريض ويستضيف يومياً رجال سياسية يطلقون كلاماً نارياً عن سوريا.
لقد أصبح لحرب سوريا معاقل على امتداد الحدود من بلدة العريضة إلى عرسال وما بينهما وحتى إلى سرغايا، وكذلك في بيروت وصيدا وطرابلس. وكان مذهلاً أن لا يعالج لبنان الرسمي هذه الأمور التي جعلت من لبنان ساحة لتلك الحرب، ويكتفي ببيان أو بتقرير من قيادة الجيش، فيما الكل يرى بأم العين تهريب السلاح والمسلّحين من لبنان إلى سوريا، وقد أصبحت مناطق عكارية وبقاعية عديدة ممنوعة على الدولة، وباتت حواجز الجيش مجرّد واجهة. ومع ذلك لم ترفّ جفون أعضاء الحكومة ورئيس الجمهورية ومستشاريه لجهة أنّ السياسة المتبعة تهدّد استقرار لبنان.

ضرورة الحياد الإيجابي

ثمّة سؤال يطرح نفسه على لبنان الرسمي: اذا كان بيت جارك يحترق والنار تكاد تصل إليك فهل تنأى بنفسك أم تحاول المساعدة على إخمادها؟ على لبنان أن يعود إلى سياسة إيجابية تشمل دور الوسيط، لأنّ لبنان يقع ضمن البيئة الجيوسياسية لبر الشام، وليس كبيراً كالعراق وتركيا، ولا مرتبطاً على نحو وثيق بأميركا وإسرائيل كالأردن. وإنّ قيام إمارة إسلامية في حلب أو حمص يعني عاجلاً أم آجلاً إمارة في طرابلس وشمال لبنان.
سوريا لم تنأَ بنفسها عن حرب لبنان عام 1975، بل أوفدت الثلاثي عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي ومحمد الخولي، وعملت على تقريب وجهات النظر ومدت الخطوط إلى كل الجهات المتصارعة. وهناك رأي يقول إنّ وقوف سوريا مع لبنان عام 1976 منع التقسيم وأنقذ المسيحيين، وإنّ عونها لمقاومته منع جعله بؤرة مستعمرات استيطانية إسرائيلية مثل فلسطين والجولان أو «كامب دايفيد» جديد.
وليس مطلوباً أن يأخذ لبنان طرفاً، بل أن يمارس الحياد الايجابي للعثور على حل في سوريا. ولقد سبق للرئيس كميل شمعون في الخمسينيات أن أدى دوراً أفاد الرئيس جمال عبد الناصر في صراعه مع بريطانيا، رغم أنّ شمعون كان يريطاني الهوى، إذ بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 رفض شمعون قطع علاقات لبنان مع لندن وباريس. وتبيّن أنّه استقبل مبعوث عبد الناصر مصطفى أمين الذي طلب منه إبقاء العلاقة مع لندن وباريس، حتى يتمكّن لبنان من تمرير رسائل باسم القاهرة إلى السفارتين.
عجباً أن يمضي لبنان الرسمي حالياً في مقاطعة سوريا الرسمية، إلى حدّ أن الرئيس سليمان ينتظر اتصالاً هاتفياً من الرئيس بشّار الأسد، إذ باستطاعة بيروت استضافة مؤتمر حوار لأطراف النزاع السوري، وأداء دور وسيط وايجاد قواسم مشتركة. وهنا تكمن المصلحة الوطنية الصحيحة، لأنّ نجاح لبنان في مصالحة السوريين يسمح بوحدتهم ضد الجماعات المتطرفة، وينهي الحرب. وكحد أدنى باستطاعة لبنان رفض أن يُستعمل مقراً لتدمير سوريا كما هي حال تركيا والأردن، وأن ينشط في العمل الديبلوماسي من أجل السلام والعمل الانساني لعون السوريين على أراضيه.

منحدر انتحاري

في تطبيق سياسة النأي بالنفس أهملت السلطة التنفيذية انعكاس تطوّر الصراع في سوريا على الساحة اللبنانية، وأنّ تقسيم سوريا سيقسّم لبنان طائفياً، ويدفع الأمور نحو هيمنة الأصوليات المسلحة على الأراضي السورية، وانتقالها إلى لبنان والتحامها بجماعات مشابهة لها لبنانية وفلسطينية. وقد يرافق هذه التحولات ارتفاع منسوب العنف وزعزعة الأمن وتهجير أو قمع المسيحيين والشيعة والعلويين والسنة، الذين يرفضون التطرّف. فالجماعات المسلّحة تقتل من لا ينضم إلى صفوفها، أو يقف إلى جانبها، ولا تعترف بالديمقراطية وحقوق الانسان والدساتير العصرية. وليس مفهوماً لماذا لبنان المنقسم على ذاته يشرّع حدوده لتلك الحرب، فيصبح حديقة خلفية تتحرك فيها الميليشيات، ويُستعمل قاعدة وبنية تحتية للجماعات المسلحة من استشفاء وإقامة وغرف عمليات ومخازن سلاح ومعسكرات تدريب.
* أستاذ جامعي _كندا، ** صحافي _برلين