أذكره قبل نحو ربع قرن. في الصف الثانوي الأول. دخل حنّا غريب الصف في ثانوية صيدا للصبيان. أستاذ جديد لمادة الكيمياء. كان علينا أن نترقّب الرجل لمعرفة نقاط ضعفه، حتى نتعبه ونجعله يهرب بأقل الأكلاف. لكنني، بخلاف الزملاء، كنتُ واضح الارتباك. فمن جهة، أنا لا أخالف رأي الغالبية بأنها أيام النضال لا أيام الدراسة. ومن جهة ثانية، كان في اعتقادي، أنا المتدرّج نحو العضوية في الحزب الشيوعي، بأنني سأكون محظياً لأنّ «الرفيق حنّا» سيدرّسنا، رغم أن الرفيق مأمون، الذي أبلغني سابقاً بوصول حنّا، حذّرني من مناداته بلقب «رفيق»: اسمع، إنه صاحب شخصية صعبة. قد يغضب وتصبح خصماً له، وهو يفصل تماماً بين دوره كأستاذ وبين صفته الحزبية. فهمت أنني لن أستطيع المجاهرة أمامه بهويتي السياسية. كان همّي يومها كيف أستغلّ وجوده أمام باقي الزملاء، فكانت حيلتي أن أحمل معي جريدة «النداء»، وأن أظهرها بطريقة ما كي يلتفت إلى الأمر، علّه يأخذ في الاعتبار أنني رفيق. ولو لم يتصرّف علناً على أساس ذلك.
لم يطل الوقت، حتى أدركتُ وزملائي أن الأمر معقّد بعض الشيء. داخل الصف، لا مجال لـ«الزناخة»، على حدّ تعبير المختار (حالياً) خالد السنّ. ومتابعة الدرس تتطلّب تركيزاً لأن الرجل يصعب تجاهل ملاحظاته. وفوق ذلك كله، كان حنّا عبوساً وقاسياً إلى حدّ ما. في تلك الأيام (أعادها الله على الشيوعيين بخير) لم يكن ممكناً التقدم بشكوى أو طلب استرحام. أذكر أننا، في السنة التالية، طردنا أحد التلامذة من «حلقة الأصدقاء» لأنه رسب في صفّه. كان عاراً علينا أن يكون بيننا طالب شيوعي لا يقوم بواجباته الدراسية.
مرّت الأيام والسنوات، والتقيت حنّا مجدداً في بيروت. كان منخرطاً في العمل نفسه. أواخر الثمانينيات ترك تفرّغه لقطاع الشباب والطلاب، وانصرف لمتابعة ملف المعلمين. ومنذ ذلك الزمن وهو منخرط تماماً، وكليّاً، في المعركة المطلبية الشاملة لتحسين ظروف التعليم الرسمي في لبنان، إدارةً وأساتذة وتلاميذ ومناهج مدرسية.
الأسابيع القليلة الماضية أتاحت لغالبية اللبنانيين التعرف إلى حنّا غريب، الأستاذ والنقابي والمناضل، بعدما تعرّف عليه جيلان من الأساتذة، وعدد غير قليل من وزراء التربية والمالية، ورؤساء حكومات تعاقبوا على إدارة فاشلة للقطاع العام. ومن كلّ هؤلاء تسمع الرواية نفسها:
ـــ رفاقه في النقابة يتحدثون عن مثابرته، وعن جديته والتزامه العمل من دون توقّف لتحصيل الحقوق. والذين يوجّهون له الانتقادات، إنما يشكون صرامته وعناده، ومَن منهم لا يجد سبيلاً إلى اكتشاف خلل في إدارته، يتحدث عن فرديّته وعناده.
ـــ أهل الحكم يشكون «رأسه اليابس». وأحد الوزراء قال مرّة أمامي: «إنه وقح، لا يوفّر المقامات الرسمية، وينسى أنه موظف في حضرة المسؤول عن الإدارات العامة».
يتبيّن أن كل هؤلاء يشكون من أنهم غير قادرين على التلاعب معه أو أمامه.
ميزة حنّا الأساسية أنه صار بارعاً في ملفّه، يعرفه بكل تفاصيله. ربّما يعرف أكثر من المسؤولين في وزارة المالية لائحة أسماء الأساتذة وكيفية تدرّجهم. وهو، فوق ذلك، يعرف التمييز بين المطالب المحقّة والواقعية، وبين المطالب التي تطحنها السياسة فتودي بها في زواريب المساومات. ولحنّا قدرة على فرض منطقه على زملائه، بحيث يصعب على أحد اختراق جسمه النقابي. لا مجال لأي تهديد. فحنّا، هنا، أقوى من كل الميليشيات، ولا مجال لإغراء، لأن تحقيق المطالب يمثّل الإغراء الأكبر لهؤلاء الأساتذة.
لكن الميزة الحاسمة لحنّا، والتي تجعله هذه الأيام شخصاً مختلفاً، تعود إلى عقله وصورته عن البلد.
حنّا ابن عكار، هذا القضاء الذي يتعلق بالدولة كل يوم رغم أنها تهرب منه. ابن العائلات المستورة التي تعرف قيمة القطاع العام والدولة الراعية لأفرادها.
حنّا، ابن البيئة غير الطائفية التي لا تعرف التمييز بين هذا وذاك ربطاً بطائفته أو مذهبه أو معتقده.
حنّا، ابن الدولة الخائف عليها من العصابات المسيطرة على مقدّرات البلد والساعي إلى إعادة الاعتبار اليها كسقف يحمي جميع المواطنين.
عدا ذلك، فإن حنّا غريب، النقابي العنيد، الشيوعي غير المنسلخ عن بيئته الاجتماعية، الوطني العابر للمناطق والطوائف، والذي لم يمنعه حاجز طائفي من العبور إلى هنا أو هناك... هذا هو حنّا، القادر على تقديم نموذج منطقي، واقعي، عادل، إنساني، على أنّ البلاد قادرة على إنتاج أكثر المضادات الحيوية فعالية في وجه الطائفية والمذهبية واللصوص والمجرمين.
في حالة حنّا غريب، وعلى شكل صورته غير القابلة للتشويه، لا يبقى مجال لكل أنواع الابتزاز، ترغيباً أو ترهيباً، ولا مجال لقمعه باسم «اللحظة الحساسة» و«الظرف غير المناسب»، كما لا مجال لثنيه تحت وطأة ضغوط الأحزاب والقوى المتداخلة مصالحها مع مصالح أهل السلطة.
حنّا غريب، يمثّلني!