أزمة الصحافةواجب الصحافة، عندما يتخندق الوضع بالشكل المتخلّف والطائفي المتفجّر الحالي، أن تصرخ في وجه الجميع. والبداية في وجه نفسها.
أثناء الحرب الأهليّة في لبنان كان هذا واجبها ولم تقم به بل خاضت حتّى الركب في التحريض على الفتنة. وبعضها خَلَط بين الحياد والجبن، ورأى في بيلاطوسيّته ترفّعاً، وما كان ذلك سوى هروب نحو شهادة الزور.
اليوم أسوأ.
كانت صحافة لبنان مدرسة للعرب وأمست، بعد ظهور صحافة الخليج وشاشاته، فرقاً لقبائل الانقسام ومافيات المال. كانت خليّة فكر وأدب وأضحت صورةً عن انحطاط السياسيّين وتعفُّن المجتمع.

كان في الصحافة طائفيّون ولكنّ سادتها كانوا علمانيّين وأعلاماً. وكان فيها مستهترون وفاسقون لكنّهم في الغالب من أهل الظرف والموهبة، وزعيمهم بلا نزاع إسكندر الرياشي، وكانت صراحتهم تغسل تهتّكهم وتُبرّئ أقلامهم وتحبس عدواهم، وكانت جرأتهم مذهباً في الأخلاق مقلوباً، وعلى الجملة كان استهتارهم المعلن قناعاً ليأس وصورة عن مجتمع سياسي منحلّ بأسره.
في تراجع الأرقام العالية للطبع، تُركت الصحافة لمصير اقتصاديّ مخيف. وفي حضور العنف والعسكرة الطائفيّة وعصر الاستخبارات الاستبدادي لم يعد للصحافة حصانة معنويّة، ومَن لم تطله يد الاغتيال الدموي طالته يد الاغتيال الأخلاقي والمالي والاقتصادي. أيّ جريدة لبنانيّة تستطيع اليوم منافسة «الشرق الأوسط» و«الحياة» السعوديتين في التوظيف والازدهار؟ مَن له قدرة الأمراء والشيوخ على صرف الملايين دون عائد؟ تستطيع شاشات التلفزيون اللبنانيّة (لبنانيّة شكلاً وخليجيّة تمويلاً) أن تجاري الفضائيّات العربيّة (العربيّة شكلاً والخليجيّة تحديداً) لأنّها تتمتّع بهامش حريّات استعراضيّة تُركّز على الإيحاء الجنسي، لكن أشهر الفضائيّات اللبنانيّة تخلو من أيّ أثر أدبيّ أو فنّي راقٍ، بعدما كان هذا النوع من الآثار عنصراً أساسيّاً في تاريخ لبنان اقترنت به النهضات المتوالية مدى قرنين ومنحت الوطن الصغير إشعاعاً إقليميّاً نافس مصر نفسها. (كانت إحدى المحطات تستعمل البرامج الثقافيّة في حقبة ماضية لخدمة سياستها خلال مراحل التأزّم الطائفي والسياسي، أو حين كان بين كوادرها مَن يعرف القيمة المعنويّة والمردود المادي لبرامج نوعيّة من هذا الصنف، ثم زالت مع توطيد عصر الكاباريه ودكتاتوريّة الضحالة والاضمحلال في حمّى الذهب الأسود).
ما لنا ولما يُسمّى «الإعلام»، أي التلفزيون، والصحافة منه براء. التلفزيون متشابه حيثما كان، فهو فنّ إزجاء الفراغ الساكن بالفراغ الصاخب. وليس هو المسؤول عن أزمة الصحافة الورقيّة بل المسؤول هم الصحافيّون وتكاسلهم وتراجعهم الثقافي. ولا مَخْرج إلّا بعودة الصحافة إلى أهل القلم وعودة هؤلاء إلى نصاعة الجهاد وبراءة المقصد. عندما نقول أهل القلم نقصد ما كانت تعني هذه العبارة: أهل الموهبة والمعرفة والبحث والوجدان والتجرُّد والنزاهة والمسؤوليّة والترفُّع والموضوعيّة والصدق والإخلاص والشجاعة والمروءة والتضحية والألمعيّة.
ومعرفة الكتابة.
الصحافة فنّ عظيم. أحياناً حلّت وأحياناً تحلّ محلّ الأدب. الأكثريّة الساحقة ممّن نتداولهم بين الشعراء والمنشئين إمّا كانوا صحافيّين وإمّا نشروا الكثير من نتاجهم في الصحف والمجلات. ولولا تسويق الصحف لهم لما عرفهم أحد.
والصحافة صاحبةُ فضل على النثر، كانت هي الأداة التي دخلت منها الحياة إلى القديم فعصفت به رياح التجديد. لم يكن محمد علي وحده مَن عَصْرَن مصر والعالم العربي بل الصحافة يوم خلطت شؤوننا الصغيرة بقضايا العالم فأصبحت «الأهرام»، مثلاً، جريدة أرض الكنانة، مرآةً لما تضطرب به العواصم الكبرى وميداناً لمراسلين خطيرين يحادثون زعماء العالم ويطلّون بالقارئ العربي على العصر ندّاً لندّ وبأرفع الأساليب.
للصحافة على الذوق العربي والوعي العربي والثقافة العربيّة فضل لم يكتب عنه أحد بعد. وهذا الفضل عائدٌ إلى مؤسّسين أنشأوا بصمت وتواضع، وإلى روّاد تفانوا، وإلى أدمغة وأقلام خلّاقة أوجدت شيئاً ضخماً من لا شيء. وكان للبنانيّين في هذا المضمار المساهمات الكبرى.
مَن كان هذا ماضيه لن يُعْدَم وسيلة لمعالجة أزمات الحاضر. حيال الضيق الذي تشهده الصحافة اليوم ماذا يمكن أن نفعل؟
يمكن أن نعود إلى الأصل. الأصل هو القلم.
القلم لا يحتاج إلى ملايين الدولارات ليكتب بل إلى ثمن القلم. الباقي في الرأس والقلب.
لو عاد بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وجبران خليل جبران إلى الحياة وقرّروا إصدار جريدة هل كان سيتوافر لهم مبلغ شراء امتيازها؟ طبعاً لا. هل كانوا سيُرتهنون للأمراء والشيوخ كي يضمنوا الرساميل ويقيموا في العمارات وتزدهي صفحاتهم بالألوان؟ لا نظنّ. ماذا كانوا سيفعلون؟ كانوا سيكتفون بجريدة من أربع صفحات يحرّرها شخص أو شخصان وتنشر الحقائق والروائع.
هيّا إلى الصحف الفرديّة الصغيرة المتقشّفة أيّها الشباب! انزلوا تحت الأرض ولتشعّ أنواركم فوقها! الصحافة الالكترونيّة تضع الكون فوراً في يدك، ولكنّها مع هذا لا تكفي. لا تلغي الحاجة إلى الكتاب الورقيّ ولا إلى الصحافة الورقيّة. للورق أعصاب الإنسان ولون الحبّ. للورق رائحةُ الكتاب المقدَّس.



بعدهم الطوفان
لا تغيب عن البال صورة العراق بعد صدّام حسين وصورة مصر بعد جمال عبد النّاصر وصورة تونس بعد الحبيب بو رقيبة وصورة تركيا بعد الكماليين وصورة فلسطين بعد عرفات وصورة ليبيا بعد إدريس السنوسي وصورة لبنان بعد فؤاد شهاب.
لم يَخْلفهم سوى الفوضى والحروب الأهليّة.
السوريّون، ثائرين على النظام الأسدي أو موالين له أو حائرين، بدأوا، بعد تراكم التقاتل وبروز الإسهام الإسلاموي في الثورة، يبدون قلقهم ممّا بعد انهيار النظام. كانوا يريدون الحريّة والديموقراطيّة وإذا بهم أمام مطلب من نوع آخر: أن لا يتسلّق الإسلاميّون سلّم التغيير ليقيموا في سوريا سلطتهم التي، إنْ تحقّقتْ، لا بدّ أن تجزّئ البلاد إلى مقاطعات على غرار العراق وإلى كانتونات على المثال الواقعي غير المعلن في لبنان.
كأنّ الثورات العربيّة والإسلاميّة لا تحصل إلّا لمزيد من التردّي.
تمنّينا لو ينتقل مجتمع عربيّ أو إسلاميّ من دين الدولة الإسلام إلى دين الدولة الإنسان. عوضَ ذلك فرض الدستور السوري الجديد، الذي قيل إنّه سيكون خطوة إلى الأمام بدل الدستور السابق لانتفاضة آذار 2011، فرضَ أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام. وبدل أن تنتقل مصر من عهد نصف عصري إلى عهد عصري كامل قفزت إلى أحضان الإخوان المسلمين.
كانت سوريا بحاجة إلى ثورة فهل تصبح بحاجة إلى ثورة على الثورة؟ سبق لسوريا أن عاشت مراحل من الانقلابات العسكريّة المتلاحقة التي لم تعرف نهايتها إلّا بالدكتاتوريّة. العراق كذلك. الوحيد المستقرّ في الشرق الأوسط والذي يتفرّج على الشرق الأوسط يتمزّق هو إسرائيل. الجميع يتصهينون لحساب إسرائيل.
وغداً إذا استكانت القبائل العربيّة إلى كانتوناتها واستنبتت من بؤسها ازدهاراً هل يعيدنا تخلّفنا، وبمساعدة أميركا وإسرائيل، إلى الاتحاد والتعايش... عسى أن يكون فيهما تَمَزُّقنا من جديد؟



عابـــــرات


تحتاج المرأةُ لا إلى أن يحبّها الجميع بل أن يحبّها شخصٌ واحد لسبب لم يكتشفه فيها أحد.

■ ■ ■


التعبير بدقّة عن حرارة الشعور يستلزم شعوراً بارداً.
الطبيعة تمتحن ذاتها بهذا النوع من التوازنات.

■ ■ ■


أتساءل، مدفوعاً بماديّتي: هل يتشفّع لي يوماً حبّي المتعاظم للحيوانات؟ ولدى مَنْ؟

■ ■ ■


الغاية دوماً كلمة.
يتطلّع الكاتب إلى لغة تمور بالهزّات: رجّة وراء رجّة.
والجالسُ أمام امرأة هناك، يتطلّع إلى كلمات تفيض بشوقه.
والمنزوي إلى نفسه يُفتّقها ويجرفها بهدير النهر الداخلي، لا يطلب غير لغة تُجوهِر حالته.
الغاية كلمة.
... غير هذه التي ستقولها الآن.