يضمن التصويت كل أربع سنوات على قانون انتخابي قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات حفاظ معظم النواب على مقاعدهم في البرلمان، وذلك عبر اختيار الناخبين الذين سيصوتون لهم بكثرة من خلال نحت الدوائر الانتخابية بما يصب في مصلحتهم. هذا ما يُسمى التحيّز في تقسيم الدوائر الانتخابية، حيث يختار السياسيون ناخبيهم عوض أن يختار الناخبون ممثليهم.مع القانون الأرثوذكسي اكتسب التحيّز في تقسيم الدوائر الانتخابية معنى جديداً في لبنان. إذا جرت الموافقة على هذا القانون فسينتخَب السياسيون من قبل أعضاء طائفتهم؛ بمعنى أنّ الناخبين الموارنة سينتخبون نائباً مارونياً، والناخبين السُنّة سينتخبون النواب السُنَّة، وهكذا دواليك حيث يمثّل لبنان دائرة انتخابية واحدة تعتمد نظام النسبية كطريقة لفرز الأصوات.
سبق أن جادل الكثيرون كم أنّ هذا النظام غير ديمقراطي، غير منصف فضلاً عن أنّه يدفع المجتمع المسيحي نحو المزيد من البُعد.
إضافة إلى ذلك، ستتنافس الأحزاب السياسية ضمن كل طائفة ضد بعضها بعضاً للدفاع عن مصالح الطائفة والحفاظ عليها. لن يسهم ذلك في تعزيز نفوذ الأحزاب القائمة وحسب، بل في إزكاء خطابها الطائفي. وبذلك فإنّ النظام النسبي الذي يهدف من الناحية النظرية إلى تمثيل مجموعات سياسية أصغر، سيؤدي دوره الآن عبر تمهيد الطريق أمام الأحزاب الطائفية المتطرفة.
ليس سلوك الأحزاب وحده الذي سيتغير مع القانون الأرثوذكسي، بل سيرسم هذا القانون دوافع الناخبين بطرق منحرفة. بغض النظر عن الهويات المتعددة التي يملكها الناخبون مثال جنسهم وسنهم وديانتهم وفئة الدخل التي ينتمون إليها، سيفرض عليهم القانون ممارسة هويتهم الطائفية للوصول إلى الموارد والوظائف والخدمات، فتصبح الطائفية الاستراتيجية الرابحة الوحيدة.
إن جرى التصويت لمصلحة القانون الأرثوذكسي في البرلمان، فسيطبع هذا القانون التفاعلات السياسية والاجتماعية من خلال إيلاء أهمية كبرى للهوية السياسية. وهذا أمر مزعج بما أنّ حاجات معظم المواطنين ومخاوفهم وتفضيلاتهم لا يحددها انتماؤهم الطائفي. على سبيل المثال، تظهر دراسة حديثة عن لبنان أجراها المركز اللبناني للدراسات السياسية لمصلحة مشروع «البارومتر العربي» أنّ الديانة والطائفة ليستا مبرراً مناسباً للانقسامات داخل الدولة. بمعنى آخر، لا تختلف احتياجات الموارنة ومواقفهم وتفضيلاتهم عن احتياجات ومواقف وتفضيلات نظرائهم السُنّة والشيعة. على سبيل المثال، رأى 50% من المسلمين و48% من المسيحيين أنّ الوضع الاقتصادي هو التحدي الأبرز الذي يواجه الدولة. ولدى سؤالهم عن توقعاتهم المستقبلية، رأى 89% من المسلمين و84% من المسيحيين أنّ المستقبل الاقتصادي يبدو قاتماً.
لا ينحصر هذا التقارب في الآراء في ما بينهم على المجال الاقتصادي فحسب. والواقع أنّ المجموعتين محبطتان من أداء الحكومة، فضلاً عن ذلك، يشعر 79% من المسلمين و75% من المسيحيين بأنهم لا يحظون بمعاملة متساوية كمواطنين. في ما يتعلق بالمواضيع الدينية، يعتقد 93% من المسلمين و88% من المسيحيين أنّه لا بد من فصل الممارسات الدينية عن السياسة. يظهر ذلك كله أنّ التحدي بالنسبة إلى اللبنانيين واحباطهم يتخطى الخلافات الطائفية.
يكمن الانقسام في الدولة في مكان آخر: الاختلافات الدينية أو الطائفية ليست هي البارزة بل الدخل؛ التعليم والمساواة بين الجنسين على نفس القدر من الأهمية إن لم يكن أكثر أهمية. على سبيل المثال، يعتقد 51% من مجموعة الدخل المتدني أنّ الوضع الاقتصادي هو التحدي الأهم الذي يواجه الدولة، وذلك مقارنة بـ39% فقط من مجموعة الدخل المرتفع. ولدى سؤالهم عن توقعاتهم، رأى 74% من الأثرياء مقارنة بـ88% من الفقراء أنّ المستقبل الاقتصادي يبدو قاتماً، إضافة إلى ذلك، يشعر 68% فقط من أصحاب الشهادات العليا مقارنة بـ80% من أصحاب الشهادات الدنيا بأنّهم لا يُعامَلون على قدم المساواة. لا يعني ذلك أنّه ما من اختلافات من حيث الدين أو الطائفة، لكنّ هذه الدراسة تسلط الضوء على أنّ الاختلافات في البلاد أكثر تعقيداً بكثير، ولا تنحصر في الدين أو الطائفة وحسب.
كيف يحسّن حشد الدعم لمصلحة القانون الأرثوذكسي معاناة المسيحيين الذين يتوق سياسيوهم بشدة إلى تمرير هذا القانون؟ الآن، ستتمكن الأحزاب السياسية المسيحية من أن ترشّح عن غير استحقاق نوابها الـ64 (أو 67 عضواً الآن إن بلغ مجموع أعضاء البرلمان 134 عضواً). لن يحسّن ذلك الموقف السياسي، الاقتصادي أو الاجتماعي للجماعة بما أنّ المشاكل في البلاد لا يُمكن أن تُعالَج من منظور طائفي. غير أنّ ذلك سيعطيهم احساساً زائفاً بالأمان على حساب جرّ الدولة بأسرها إلى شفير التطرّف عوضاً عن العيش المشترك.
ولعل الإحصاءات المنبثقة عن الدراسة، التي تجسّد على أفضل وجه مشاعر اللبنانيين تفيد بأنّ 91% يعارضون هذا التصريح: «الزعماء السياسيون قلقون على حاجات المواطنين العاديين». تتفق كافة المجموعات الطائفية والدينية على ذلك.
يتناقض تصويت اللجنة النيابية المشتركة لمصلحة القانون الأرثوذكسي التوجه الذي نشهده في العالم العربي. على الرغم من أنّ النظام السياسي اللبناني أثبت أنّه مرن في مواجهة الثورات في المنطقة، هو يظهر أنّه مستنزف حيث يُعاد بناء الهويات الدينية والطائفية لخدمة مصالح دائرة ضيقة جداً من النخبة. للمضي قدماً، على البرلمان أن يتبنى قانون الانتخاب الذي أعدّته الهيئة الوطنية، المعروف بقانون فؤاد بطرس، الذي يمزج بين النسبية والنظام الأكثري. فهو يطرح النسبية للحث على تمثيل المجموعات السياسية الصغيرة واضفاء الديناميكية على النظام الحالي المسيطر، الذي يعتمد بشدة على حكم الأقلية، فضلاً عن ذلك، على ضوء اقتراح القانون الأرثوذكسي، تظهر حاجة ملحة إلى إعادة النظر في تشكيل مجلس النواب كما ينص عليه اتفاق الطائف.
(ترجمة: باسكال شلهوب خوري)
* مدير المركز اللبناني للدراسات