يرسم وليد المصري (1979) كرسياً، ويريد من المتلقي ألا يصدّق أنه كرسيٌ فقط. لا يقول: هذا ليس كرسياً، كما وصف رينيه ماغريت غليونه الشهير. الكراسي التي تتكرر في معرضه الحالي الذي تستضيفه «غاليري أيام» بعنوان «كرسي الإدراك»، لا تنتقل إلى اللوحات العشر بكامل حضورها الفيزيائي والفوتوغرافي. الكرسي هو ثيمة المعرض، ويبدو أنه مشروع متكامل بالنسبة إلى الرسام السوري الشاب، الذي ارتبط اسمه برسم الكراسي في معارضه السابقة أيضاً. ممارسة مثل هذه تضعه داخل نوع متطور من «الفن المفهومي»، وتذكرنا بسلالة من الفنانين الذين أدخلوا المواد والأغراض الواقعية كما هي إلى لوحاتهم، لكنّ ذلك يظل خلفية عمومية وتاريخية باهتة طالما أنّ الكراسي منجزة هنا بالطريقة التي تنجز بها أي موضوعة لونية أخرى.

إنها كراسٍ، لكننا مدعوّون إلى تناسي ذلك، أو إلى تفتيت هذا العنوان الصلب وتذويب جزئياته في المقترحات البصرية التي تنشأ عن هذا التكرار. وهنا، يصبح في إمكان المشاهد أن يعامل الأعمال المعروضة كلوحات تجريدية صودف أن الكتلة الرئيسية فيها منجزة على شكل
كرسي.
قد يكون كرسياً وحيداً، أو كرسيين، أو خمسة كراسي على صف واحد، لكن اللوحة دوماً مقسمة بين كتلة الكراسي في الأعلى والخلاء المتبقي في الأسفل، حيث تتعدد طرق إشغال هذا الخلاء إما بإلحاقه كاملاً بالخلفية العامة للوحة، أو بخلق تناظر هندسي وشكلاني مع الكتلة الأساسية عبر وضع لطخة لونية (صفراء غالباً)، أو نجوم بيضاء متجاورة، أو مشحات سوداء ورمادية.
هكذا، يصبح الكرسي أطروحةً تجريدية تظل على صلة بالفن الموادّي والمفهومي، لكنها تتحرر أو علينا أن نحررها من هذه الصلة، وأن نسمح له بخلق انطباعات مختلفة عن حقيقته. التغيرات الطفيفة في أشكال الكراسي، وطريقة تموضعها في فضاء اللوحة، يساعداننا على ذلك، إضافةً إلى أنها منجزة بمدوّنة لونية مرنة وخافتة تكسر التكرار البصري بغنائية تعبيرية طالعة من الفرضية التجريدية
ذاتها.
في المقابل، لا تلغي هذه المقترحات فكرة أن الحضور المتكرر للكراسي (قد) يُضجر المتلقي الذي يتنقل بين اللوحات، منتظراً تلك المفاجأة التي لا تنتظره، فيُضطرّ إلى الاكتفاء أخيراً بأن ما يراه هو تجريدٌ بتجريد.
تصديق فكرة أن ما نراه هو أعمال تجريدية يوسِّع المدى المجدي لتأمل اللوحات قليلاً، ويخفف من ثقل تكرار فكرة الكراسي التي يكاد امتداحها يتحول إلى نوع من الشعوذة النقدية لدى أغلب من كتبوا عن هذه التجربة، وينطبق ذلك حتى على سعي الناقد أسعد عرابي في تقديمه للمعرض، إلى ربط ممارسة الرسام الشاب بتجربة روبرت روشنبرغ (1925 ــ 2008). صحيح أنه يعدّل هذا الربط لاحقاً بالإشارة إلى «شبحية» كراسي وليد المصري مقارنة بخشونة المواد التي استُخدمت في أعمال المعلم الأميركي الشهير، إلا أنّ ذلك لا ينفي أن الجميع يحاول «الهرب» من بساطة وفقر وخفة ما يراه إلى ابتكار زوايا أخرى للنظر إلى التجربة، ومحاولة تخصيبها وإغنائها بالبحث عن ماضٍ قوي لها، والعثور على صلات متينة لها مع ممارسات معاصرة أخرى، بينما هذه المحاولات في الواقع تزيد من معضلة أنّ الكرسي ما هي إلا «إشارة عدمية» بتعبير عرابي نفسه. هكذا، يصبح وجود الكرسي مجرد خديعة بصرية، طالما أنّ الرسام نفسه يطالبنا بنسيان الكرسي دوماً، أو جعله نقطة انطلاق لعوالم أخرى. إذا كان الكرسي مهماً إلى هذه الدرجة، فلماذا يُطلب من المتلقي أن يتجاهله إذن؟

«كرسي الإدراك»: حتى 4 نيسان (أبريل) ــ «غاليري أيام» (الزيتونة، بيروت) ـ للاستعلام: 01/374450




بصمة شخصية

على غرار عدد من مجايليه ومن سبقوهم بقليل، ابتعد وليد المصري عن تقاليد المحترف السوري، وبات البحث عن بصمة شخصية مسألة ملحّة عقب تخرّجه في «كلية الفنون الجميلة» في دمشق عام 2005. ولعل موضوعة الكرسي هي حصيلة هذا البحث، بالتوازي مع الموضوعات والطموحات التي وضعته مع زملائه في عملية حوار قاسٍ مع الهوية، والتحاق ضروري بالفنون المعاصرة التي باتت مطلوبة بقوة في الغاليريات والمواعيد التشكيلية الكبرى. قد تكون تجربة المصري أقرب إلى تجربة عبد الكريم مجدل بيك (1972) في تحويل الجدران الدمشقية إلى تجريدات مستقبلية، إلا أنّ الجدران كانت مقترحاً أكثر ثراءً من الكراسي على أي حال.