عاصفة «رومية» تهبّ دائماً، لكنها لا تلبث أن تهدأ. الهبوب الأخير كان موجة استنكار أُثيرت بمقتل السجين غسان قندقلي شنقاً بعد تعذيبه على أيدي سُجناء من «فتح الإسلام». آنذاك، تجدّد الحديث عن «سجن رومية المركزي» بوصفه «وكراً للجريمة ومصنعاً للمجرمين»، فاستعيد بعض من واقعه الخطير. و«اتّهم» أحد السياسيين النائب العام التمييزي السابق القاضي سعيد ميرزا بـ«إعطاء موافقة خطية على إدخال خطوط هاتفية خلوية إلى المساجين في سجن رومية»، مشيراً إلى أنّ المجرمين ينشطون من الداخل في الإشراف والتنسيق على العمليات الجارية في الخارج. لم تصدق التهمة في شقّها الأول، لكنها كشفت عن فضيحة من نوعٍ آخر تتمثّل باعتراف المسؤولين بعجزهم عن كبح جماح هذه الظاهرة.
في الشكل، دافع ميرزا (في رسالة قدمها إلى رئاسة مجلس الوزراء يوم 4 شباط 2013) عن نفسه، كاشفاً أنه منح الإذن الخطي حصراً على عرض مقدّم من «جمعية دار الأمل» لتقديم ثلاثة أجهزة خلوية مع خطوط لوضعها في تصرف نزيلات سجون النساء في كل من بعبدا وطرابلس وزحلة، مشترطاً بقاء الهاتف بعهدة رئيسة السجن ووضع سجل لضبط مدة الاتصال وهوية المتصلة والمتّصل به. هذا في ما يتعلّق بـ«التّهمة». أمّا باقي النقاط التي عرضها المدعي العام التمييزي السابق، فقد كشفت عن «راية استسلام بيضاء»، رفعتها الأجهزة الأمنية والقضائية، بالتكافل والتضامن، أمام واقع انتشار الهواتف الخلوية بين السجناء. ورغم أنّ الأجهزة الخلوية تدخل نتيجة تقصير عناصر الأمن أو تواطئها، إلّا أنه جرى التعامل مع هذه المشكلة باعتبارها أمراً واقعاً. وأغشى هؤلاء أعينهم عن جرائم تُرتكب وفتاوى هدر دم تصدر من سجن الدولة المركزي.
هكذا عرض الرئيس ميرزا، في معرض دفاعه عن نفسه، عدة حوادث اكتُشف خلالها وجود أرقام هاتف تعمل داخل السجن، فأشار إلى أنّ فرع المعلومات، عبر التحليل والتدقيق بالاتصالات والمواقع الجغرافية، تمكن من رصد 35 رقماً هاتفياً ينشط ليلاً داخل سجن رومية. وتطرق إلى تبرير تعذر ضبط هذه الهواتف من خلال التفتيش المباشر، بكون السجناء يخفونها في المجاري الصحية والجدران والنوافذ بطريقة يصعب كشفها ميدانياً، لافتاً إلى أنه خاطب وزارة الاتصالات لكشف هوية أصحاب أرقام الهواتف ووقف العمل بهذه الأرقام، لكن تبيّن له بعد وقفها ظهور أرقام جديدة فاق عددها الخمسين عادت لتنشط داخل السجن. وبحسب الوثائق، كلف ميرزا «فرع المعلومات» إجراء تحقيقات مانحاً الإذن بالموافقة على قطع الاتصال بواسطة عمود الإرسال قرب سجن رومية. إلا أنّ الأمر أثار ضجة من قبل ضباط السجن ورتبائه وأهل الجوار، «فعاد الإرسال وعادت معه اتصالات السجناء كما كانت»، بحسب ما تذكر مصادر أمنية لـ«الأخبار».
إزاء ذلك، كشفت التحقيقات التي أجراها «فرع المعلومات» أن الأرقام تعمل خلال الليل، بعد إقفال الأبواب، في أوقات متقطعة. وأُعدّت لوائح بالأرقام الناشطة ليتبين أنها تتواصل مع أرقام موجودة في مناطق الشمال وبريتال البقاعية ومخيم عين الحلوة تحديداً. وأشارت إلى أن الخط الهاتفي يُستخدم من قبل عدة سجناء، ما يعني صعوبة الرصد تقنياً. هنا بيت القصيد. الخطير في الأمر، فضلاً عن انتفاء الغاية التأديبية من حجز الحرية، استكمال بعض السجناء نشاطهم الجرمي من خلف القضبان. فتاجر المخدرات يمكنه إدارة الصفقات من مبنى المحكومين. وكذلك يفعل «الإرهابي» الذي بإمكانه «توجيه عناصره أمنياً أو إعطاء فتوى معينة» من طابق الإسلاميين. وخير دليل على ذلك، الفيديو المصور الذي ظهر فيه السجين الفار وليد البستاني قبيل إعدامه على أيدي عناصر من «الجيش السوري الحر». إذ تؤكد المعلومات، أن فتوى إعدامه بـ«رصاصتين في الرأس» تنفيذاً للحدّ الديني، أصدرها شيخٌ موقوف في الطبقة الثالثة من المبنى «ب». لا تنتهي المسألة هنا، تكشف معلومات أن بعض اتصالات الإنذار بوجود متفجرات التي وردت إلى قصري العدل في بيروت وجبل لبنان كان مصدرها سجناء في سجن رومية المركزي، أرادوا من خلالها إرجاء جلسات محاكماتهم بخلق بلبلة كهذه، فضلاً عن رسائل التهديد التي تلقّاها عشرات القضاة من سجناء مجهولي الهوية.
وفي هذا السياق، أجرى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي دراسة للاتصالات الصادرة والواردة إلى أرقام رُصدت داخل السجن، لكن لم يتم ضبطها خلال عمليات التفتيش (مستند صادر بتاريخ 23/9/2009). فحدّد الرقم 71XXXXXX الذي شُغّل لأول مرة داخل سجن رومية بتاريخ 13/6/2009. وبحسب كتاب فرع المعلومات المُرسل إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، يتواصل الرقم المذكور مع أرقام مشبوهة وأخرى معروفة. ويبرز لافتاً تحديد عناصر الفرع الأمني هوية المتصل بهم الذين كان بعضهم مروجي مخدرات. إضافة إلى رصدهم ثلاثة اتصالات من الرقم نفسه مع الرقم 03XXXXXX الذي تُشير المعلومات إلى أنّ حامله على علاقة بـ«شبكة أبو محمد المرتبطة بتنظيم القاعدة». كما رُصدت عدة اتصالات وردت إلى هذا الرقم من سنترال في مخيم البدّاوي، لكن لم يتم تحديد صاحبها. وأشار المحضر إلى وجود أرقام أخرى تعمل داخل سجن رومية ، فذكر الرقم 71XXXXXX الذي تبيّن أنه يتواصل باستمرار مع الشيخ بلال دقماق.
اليوم، بات ملف هواتف السجناء كاملاً في رئاسة الحكومة. فهل يتحرك مجلس الوزراء؟ أم أن الدولة ستعلن عجزها رسمياً عن إدارة سجن؟


للاطلاع على الوثائق، انقر هنا