رغم التشابه بين تجارب الغرافيتي، استطاعت التجربة البحرينيّة رسم مسارها بقدرتها التعبيريّة الخاصة. ملامح هذه التجربة بدأت تتشكّل مع اندلاع الانتفاضة الشعبيّة في وجه النظام القمعي، وتقدّمت التجربة بعد عامين عليها. بداية، انحصرت كتابات الغرافيتي بعبارات كتبها ملثّمون على جدران القرى. «يسقط حمد» كانت الأكثر انتشاراً، وهي تتماثل مع عبارات «يسقط مبارك» أو «يسقط بشار» التي كتبت على جدران مصر وسوريا. غالباً، كان يغيب وجه الدكتاتور عن الجدران. تُكتب «يسقط حمد» من دون صورة، كأنّها بيان سياسي مباشر. لكن هذا لا يعني غياباً لملامحه عن الجدران. هو أحياناً يقبع في وسط الجدران، مع حبل مشنقة يلفّ عنقه. في هذه الرسوم، تتمظهر الرغبة الجماعيّة لمعارضي النظام: الإسقاط الجسدي للدكتاتور. هذه الرغبة ظهرت بعد قتل الأمن البحريني عدداً من المحتجين أثناء التظاهرات. ولأنّ الانتفاضة لا تحيا خارج المكان، احتلّ المنتفضون «دوّار اللؤلؤة»، فأخذت المواجهة مستوى أعلى: تحدٍّ مباشر لسلطة النظام.

هذا التحدّي مارسه البحرينيّون كغيرهم من الشعوب المنتفضة على دكتاتوريّاتها. وهذا ما أعاد الاعتبار إلى الساحات كفضاء عام يرسم ملامحه الناس، ورمز للاحتجاج على الأنظمة: ميدان التحرير في القاهرة، ساحة التغيير في صنعاء، وساحة العاصي في حماة السوريّة. لم يتقبّل النظام فكرة احتلال المعارضين للدوّار، فواجه المعارضين بالعنف، وأجبرهم على الخروج. بعدها، برزت العودة إليه كأحد أهم أشكال الاحتجاج، وهذا ما جعل العودة هدفاً من أهداف النضال اليومي في البلدات البحرينيّة. عند قراءة هذا السياق، نستطيع أن نفهم أكثر تسرّب «دوّار اللؤلؤة» إلى المجال البصري للشوارع في البحرين. اصبح جزءاً من أعمال الغرافيتي، وهذا ما جعله أحد الرموز المكانيّة للانتفاضة. عادة ما يترافق «دوّار اللؤلؤة» مع عبارة: صامدون، عائدون، مقاومة أو ثورة. حتّى إنّ الذين أرادوا التضامن مع انتفاضة البحرين، استخدموا رمز اللؤلؤة. هكذا نجد على أحد الجدران في رأس بيروت: دوّار اللؤلؤة مع عبارة «رموزنا الخالدة» إلى جانب غرافيتي متضامن مع الانتفاضة السوريّة: رسم يُشبّه الدكتاتور بهتلر مع عبارة «ملك الغابة راكب دبابة». وأيضاً حضر المعتقلون السياسيون في الشارع. حضروا بملامحهم وأسمائهم، هُم مغيّبون تحت الأرض في سجون النظام، لكنّ الناشطين والناشطات يُخرجون قضاياهم إلى الضوء لتكون عامّة ومرئيّة للجميع، مثل قضيّة الناشط السياسي والأمين العام لمنظمة «وعد» إبراهيم شريف، وعبد الوهاب حسين، أحد رموز المعارضة الوطنيّة والإسلاميّة في البحرين. حوّل الغرافيتيّون والغرافيتيّات جدارن القرى والبلدات إلى سجل توثيقي يحفظ أسماء الذين قتلوا على أيدي الأمن، إضافة إلى بعض الأعمال التي تدلّ على مكان سقوط الشهيد، مثل «هنا سقط الشهيد» مع سهم يُشير إلى المكان. كتب الناشطون هذه العبارة على أحد أبواب المحالّ في منطقة الجفير، حيث دهست سيّارة الأمن الفتى علي بداح (16 سنة) في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011. هذا العمل البصري يشبه طريقة أجهزة التحقيق في تحديد مكان الجريمة عند وقوعها، وهو أشبه بمحاكمة شعبيّة للسلطة. يتّجه أي نظام يواجه أزمة داخليّة إلى التأكيد على أنّ «البلاد بخير»، وعادة ما يُحاول استغلال حدث ما للتأكيد على ذلك. تنظيم سباق «الفورمولا 1» في المنامة كان أفضل فرصة للنظام لإثبات تلك الفكرة. هذا ما جعل الحدث العالمي نقطة تجاذب في الحراك البحريني. السلطة تستخدم الحدث من أجل إثبات صورة «الاستقرار». أما المعارضون، فيريدون إخبار العالم بالظلم والقمع اللذين يتعرّضون لهما. أثناء الاحتجاجات المناهضة لـ «الفورمولا 1» والداعية إلى مقاطعتها، ظهرت جداريّات الغرافيتي التي ترى أنّ السباق يجري على حساب دم الشهداء. وفي بصريّات أخرى، ظهر الملك يقود سيّارة «فورمولا» وإطاراتها متّشحة بالدماء (الصورة). لا شكّ في أن المنتفضين نجحوا من خلال ذلك الحدث في جذب نظر الإعلام العالمي إلى قضيّتهم. أخيراً، في الذكرى الثانية للانتفاضة البحرينية، نسترجع أحد أعمال الغرافيتي على جدران البحرين: «هذا العصر عصر الشعوب، وسقوط عصر الطغاة».
* مدوّن وصاحب كتاب «غرافيتي الانتفاضات» (الدار العربية للعلوم ناشرون)