الى جورج ابراهيم عبدالله

في" جدار الصوت" اليوم، ضيفٌ عزيز. كان قد عهد إلينا بنشر رسالة الى "رفيق الجيل" جورج ابراهيم عبدالله، بمناسبة اقتراب إطلاق سراحه. لكننا، ولسبب تقني، لم ننشر كامل رسالة د. وسام عيسى في الجريدة الورقية. وبما أن المعنى لا يستقيم الا بالنصّ كاملاً، نعيد هنا نشر رسالته الجميلة، فما على الرسول عادة، إلا البلاغ.

جورج عبدالله: إبق حيث أنت، "لأنك في ضمير سجنك أسعد منّا في سجن الضمير".

كان ذلك في ليل باريس الطويل. كنّا كالذئاب، نعرف إن الخداع يطاردنا، وإن الموت يراودنا عن نفسه بين رصاصتين: واحدة صديقة وأخرى عدوَّة. شعورناالمجنون بحتميَّة نبل الشعوب، ورحيلنا نحو الناس، خفَّض سعرنا إلى ثلاثة من الفضَّة، أو إلى عبارة في تصريح مسؤول، فخرجنا من المعادلة. عزلتك وحدها كانت قادرة على تحمُّل أفكارك الكبيرة، غير أنك وصلت متأخراً يا رجل. «كم كنت وحدك يا إبن أمي، كم كنت وحدك». تعاطفنا معك، وسألنا عنك، فكان الجواب قاتلاً: إنتخاب الجلاّد وإنتقاء المقصلة. مسيحي ماركسي مستقل: جنون لا يطاق. إنك كالجوع يا رجل: لا يتبنّاك أحد. فهمت لماذا ألتقيك أبداً: مسألة جغرافيا وإنتماء.خطّان متوازيان لا يلتقيان إلّا بإذنه تعالى، وإذا التقيا فلا حول ولا قوَّة...تحمل ماركس على دراجتك النارية وتهبط في القبيّات إلى مخيم البارد.أحمل سعادة على كتفي وأستقل سيارة أجرة إلى مخيم البدّاوي. وهكذا دوماً كنا على بعض كيلومترات من اللقاء في فلسطين الحبيبة. «وهكذا دوماً كلما كنا على وشك الزفاف، كان المأتم يتقدّم مهيباً ومروعاً فيفرّق، وهو الإنسان ما جمعه الله». خسئ رفاقك يوم صدَّقوا أن في باريس عدالة. خسئوا يوم سكتوا عن عهر فرنسا وخساسة ساستها وتزوير قضاتها وصغر نفوس مناضليها. كان عليهم أن يحرروك كما يحرر الأبطال، ليس لأحد حق سبيك. كان عليهم أن يرسلوا جواز سفرك اللبناني إلى «الحية الشهيدة» كي تمزقه، فيهبط منسوب السم في دمها وتهدأ. لتسدل الأفعى عنقها للريح وتعود إلى أمور الأرض الصغيرة. ربما لديك وقت قصير للتفكير، فكّر جيداً. لا تظن أن الجلجلة ورائك، لم تعبر حتى الان سوى جبل الزيتون، الجلجلة أمامك يا رجل، فاقرأ: من بيروت الى القبيّات عالم "دانتي" المعاصر. سيفرغ قلبك من كل ما اقترف من الحب. هنا سيقايضونك على جلدك، هنا سيفرحون بك وعليك. لن يسألك أحد عن قلبك الكبير أو فرحك أو حبك الأول. لن يحمل معك أحد وجع المفاصل في الزنازين الرطبة في كل هذه السنوات. هنا ستُحمل «جورج» كالهمّ، و«ماركس» كالمصيبة وإستقلالك كالنعش، «تحمل هاويتك وتمشي». في بيروت: رحلت المومسات الطيبات صديقات الفقراء من وسط المدينة، حلَّت محلهن هاويات آنيّات يجيدن العهر واستقطاب المال السهل ويتلوين على طاولات الجراحة التجميلية. لكل صباح فطوره بمغنى ملتهب وكأس مترعة، إنها غلواء الشرق. في كسروان: الوجوه نفسها تتهافت على تحالفات آنيّة بغيضة، هدفها فقط النيل من الجار أو الأخ أو إبن العم. في جبيل: يقبع فارس البحر متمترساً بالفكر التكفيري الجديد، علّه بهذا النور الفلسفي يُضْعِف أخصامه السياسيين. في الكورة: تمثيل شعبي للقوات وما أدراك! اما القلمون؟ فهانئة «زي ما هيّه»، وطرابلس؟ قندهار المشرق. من عتبة مقهى الأندلس رحل «الآغا» إلى العالم الآخر، قرفاً من المثقفين المتهافتين على زواريب المال والسلطة تاركين وراءهم ظفار وعدن وفييتنام وأميركا اللاتينية. صعوداً إلى عكار: في الأفق كتائب النصرة. شمالاً فتح الإسلام. غرباً "حزب التحرير" وخالد الضاهر. إرحل بعيداً يا رجل، بلغ تحياتي الى "تشافيز" و"كاسترو". بحاجةٍ أنت أن تغفو قليلاً على جلدٍ عطر، هناك تماماً بين الإبط وهضاب النار. بحاجة أنت إلى كلمة لطيفة لعينيك عندما تغفوان. بحاجة أنت إلى جسدٍ حر وتبغٍ نظيف. بحاجة أنت إلى صدق ومحبة وأن تبكي كالطفل عندما يداهمك صهيل الجنس من غير موعد. بحاجة انت أن تعيش، وهنا لم يعد لدينا سوى الموت الموظف في السياسة الرخيصة. على كل جلد سعره بالدولار، وفي كل وهم حرية سقوط للدولة. إن أرحام البغايا لم تلد مثل هذا المشهد. سلبت سنين عمرك فارحل بعيداً عنا إلى بدايات الصور والألوان. عرَّج على جبال آسيا: إعتنق البوذية. لا نريدك كافراً ولا مسيحياً ولا سنياً ولا درزياً ولا شيعياً، عد لنا بوذياً لسببين: 1 ـ لكي يكون لك قضية لا يتآمر عليها أحد. 2 ـ لأننا في أمس الحاجة إلى الحكمة. ولكني أعرف عن عنادك أدق التفاصيل. دعنا من الحلم. سوف تعود، لذا أعلن لكل فلولنا التائهة، لكل من لا سعر له، لكل من رفض أسواق النخاسة، لكل من لم تصبه رصاصة الغدر: إننا سنحتل كل بقعة تمر بها. وسنكون حولك ومعك حتى الضجر. سنعلنك أميراً ووالياً ومرشداً وسيداً لجماعتنا الضائعة بين أخاديد الحبر والكلام التافه. سنحتل "مزرعة حيوانات" ونعيش داخلها كي لا يصعب علينا بعد ذلك العبور الى تفاصيل البلاد. سندافع عن قضيتين: حقوق العلمانيين والزواج المدني. نصيحة أخيرة: أرشف ما شئت من الهوى وارفض أن تنجب طفلاً. فقلبك الكبير لن يتحمل أن تسألك عيناه يوماً: أبي..لم جنيت علي؟.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/11/2013 10:39:09 PM

رائع رائع ... رسالة في منتهى الرقّة والبلاغة، واليأس المجبول بالرجاء ... ومن قال أن أيام الظلم قلّت؟ وأن الشرّ تراجع؟ تشاهد فيلم البؤساء، يتراءى لك أنّه من عصر آخر، من مئتي عام ... ظلمٌ رحلَ ... وعندما تضيء قاعة السينما، تستدرك وتستفيق على واقع أكثر ظلماً، لأنّه أكثر شموليّة ونفاقاً... البؤساء كانوا، وها هم آتون، الآن وفي كل لحظة ... البشريّة عمرهاآلاف السنين،أمّاالإنسانيّة، فهي لم تولد بعد !

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم