التهافت على صحف ومواقع الإعلانات المبوبة في لبنان ليس عبثياً. فأن تجد ضالتك في الأسواق المختلفة عملية مضنية من دون هذا الوسيط. والصعوبة تزداد تحديداً في حال سوق العمل التي تعاني مشاكل هيكليّة تتمثّل أساساً في الهوّة بين ما يطلبه النموذج وما تعرضه قوّة العمل: خيرة المتعلمين يهاجرون بمعدّل النصف لكل جيل، وتستقدم البلاد العمال الأجانب لتلبية الحاجة للوظائف المتدنية الإنتاجيّة التي تُشكّل محرّك القطاعات الأساسية التي يعتمد عليها الاقتصاد.
لكن حتّى بمساعدة الإعلان المبوّب، تبقى الأزمة موجودة. فلنأخذ صفحة الوظائف في أبرز وسيط في لبنان. عدد الوظائف المعروضة عليها لا يتجاوز ثلث المعروض في خانة العقارات، وهو دون عدد الإعلانات في خانة السيارات.
المشكلة ليست في العدد فقط، بل بنوعية الوظائف المطلوبة؛ إذ إن نظرة سريعة توضح أنّ بين 870 وظيفة، التركيز الأساسي هو على الوظائف الخفيفة في قطاع الخدمات وعلى الأشغال التي تتطلب سفراً، وتحديداً إلى بلدان الخليج.
آخر صيحة هي كردستان العراق، حيث تعرض شركة معيّنة الآتي: «مطلوب إلى أربيل مدرسون ومدرسات، ناظر، ناطور، سائقون وعامل صيانة. بطاقة السفر مؤمنة والراتب: 2700 دولار». هي صيحة من دون شكّ؛ إذ يبدو أنّ هناك شركة تنوي بناء مدرسة متكاملة في المدينة الشهيرة بفورتها حالياً، أو أن صاحب العمل هو متعاقد يوفّر عنصر العمل لقطاعات مختلفة.
يطول الكلام في عالم الإعلانات المبوبة. يهرب إليه الكثيرون كما يفعلون مع كافّة المواقع الإلكترونيّة المختصّة بالمطابقة في سوق العمل (Matching)؛ وهي كثيرة. لكن لعلّ ما يجهله كثيرون هو أنّ هناك مؤسسة وطنية قامت بحكم القانون لها حصرية مبدئية في نشاط المطابقة هذا؛ إنها المؤسسة الوطنية للاستخدام (NEO).
رغم أهميتها، بقيت هذه المؤسسة مهملة وتعاني شغوراً وصلت نسبته إلى 80%. تُشبه أي مؤسسة عامّة غير منتجة تعمل بحقن المشاريع الأجنبيّة. آخر تلك المشاريع عملت عليه منظمة العمل الدولية بالتعاون مع الوكالة الكندية للتنمية الدوليّة، وهو عبارة عن تجديد للموقع الإلكتروني الخاص بالمؤسسة ليُشكّل: «النظام الإلكتروني الرسمي لتبادل الوظائف».
هذا المشروع هو ثمرة عمل استمر أربعة أعوام. وبحسب القيّمين عليه، فهو يهدف إلى خفض كلفة المعلومات المتاحة في سوق العمل أمام الباحثين عن عمل وأصحاب العمل على حد سواء وتعزيز الفرص من أجل ربط المرشحين المناسبين بالوظائف المناسبة. وهو يُشكّل «وسيلة سهلة وآمنة للبحث عن عمل. وبناءً عليه، يمكن المستخدمين الدخول إلى الموقع 24 ساعة يومياً و7 أيام في الأسبوع»، وفقاً للمدير العام في المؤسسة، جان أبو فاضل.
هناك أهمية لهذا المشروع لا شكّ، لكن هل هو المدخل لتصحيح الخلل في سوق العمل في لبنان؟
«يُمكن أن يكون للمؤسسة دور أساسي في أبحاث البطالة والهجرة وطرح الحلول والآليّات الخاصة بها، لكن الأزمة الكبرى لا تتعلق بالإدارة»، يُعلّق وزير العمل السابق، شربل نحاس. يوضح: المشكلة الأصلية تتمثّل في أنّ هذا الاقتصاد لا يطلب الوظائف التي يرغبها اللبنانيّون والتي كانوا يتوقون إليها أيام الجامعة.
تنعكس هذه الحال في القليل من الإحصاءات المتوافرة عن سوق العمل. بحسب دراسة لمؤسسة البحوث والاستشارات (CRI) لمصلحة منظمة العمل الدولية نفسها، فإنّ معدّل البطالة هو 16% بالحدّ الأدنى، وذلك بعد شطب نحو 14 ألف شخص يهاجرون سنوياً.
الحل برأي الوزير المستقيل يتمثّل في المشروع الأساسي الذي كان قد دفعه إلى الاستقالة بسبب رفض النظام السياسي لمنهجيته: التصحيح الهيكلي للأجور عبر رفع حدّها الأدنى ليُصبح منافساً لكلفة استقدام الأجانب، وفي الوقت نفسه إزاحة جزء من الأعباء الواقعة على المؤسسات عبر خفض كلفة الاشتراكات التي تدفعها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وفي إطار المشروع، هناك مبادرة دعم فرصة العمل الأولى للشباب التي تؤدي فيها المؤسسة الوطنية للاستخدام دوراً أساسياً: يوقّع المتخرجون الجامعيون التزامات مع المؤسسة تقضي بالبحث عن عمل وإغراء الشركات بشيكات تُعفيها من اشتراكات الضمان لفترة عامين.
وُضع المشروع على الرف مع دفع شربل نحاس إلى الاستقالة، ولكن عندما قررت الحكومة تفعيل عملها أقرت المرسوم مرّة جديدة وخصّصت سلفة تكفي لأربعة آلاف متخرج جامعي باحث عن فرصة العمل الأولى. ماذا حدث حتّى الآن؟ لا شيء.
مشروع أساسي كهذا ليس فقط للبلدان ذات الأسواق المشوهة ــ أو لنستخدم تعبير «غير العادية» ــ مثل لبنان. فمع انطلاق عهد فرانسوا هولاند في فرنسا أخيراً، كان مشروع فرصة العمل الأولى للشباب (16 – 25 عاماً) على رأس الأولويات: الدولة تتولّى تسديد 75% من كلفة الحد الأدنى للأجور في القطاعات غير التجارية على فترة ثلاث سنوات لتمكين الشباب وإغراء الشركات على التوظيف.
لا يُمكن مقارنة لبنان بفرنسا طبعاً، لكن يجب أن تكون هناك نقطة بداية منطقية؛ إذ لا يُمكن الاستمرار بوضع تُعالج فيه وزارة العمل ما يصل إلى 250 ألف طلب جديد أو تجديد لعمال أجانب، فيما الطلبات المقدمة للمؤسسة الوطنية للاستخدام لا يتجاوز 250 طلباً.
على أي حال، من يرغب في أن يجرّب حظّه في السوق الحالية عبر المؤسسة يُمكنه زيارة الموقع: www.neo.gov.lb. وبعد التجربة يُقدّم ملاحظته عبر الاستطلاع المعروض، وعلّه يُفيد زملاءه في سوق البطالة، لينتقلوا إلى سوق العمل.