«فوق الموتة عسة القبر». تعبير يردده أهالي حلب تعليقاً على ما وصلت إليه الأحوال من قطع للطرقات العامة يضطرهم لدفن ضحاياهم في الحدائق العامة، والمساحات الخضراء في أحيائهم، ريثما تتحسّن الأوضاع لنقل رفات ذويهم إلى المقابر النظامية. حلب، التي تشتهر بمتنزهاتها الشعبية وحدائقها، وميل أهلها لقضاء أوقاتهم في الغابات القريبة من المدينة، تحوّلت بعض حدائقها، التي كانت تعجّ بمئات العائلات، إلى مدافن لضحايا لا يمكن لذويهم الوصول إلى المقبرة الإسلامية الحديثة شرقي المدينة.
حديقة منطقة المعري، وسط حلب، تحوّلت إلى مقبرة مؤقتة لأهالي المنطقة. اختلطت فيها قبور شهداء الجيش مع ضحايا التفجيرات، والقصف، ورصاصات القناصة. البؤس هي الكلمة الوحيدة التي تنطبق على الوضع الحالي. قبور أعدت على عجل، وشواهدها غير مخططة بإتقان. كثيراً ما يتوقف المارة بأسى ليقرأوا الفاتحة ويتأملوا المشهد الذي انحدرت إليه الحياة في حلب... التي لم تكن تنام.
سيدة عجوز كانت ترشّ الماء على قبر حفيدتها، الطالبة الجامعية، التي قضت إثر سقوط صاروخ محلي الصنع على بيتهم، في وقت كان شاب يقوم بتكسير بوابة خزانة خشبية لاستخدامها بدلاً من الحجارة المسطحة في سقف القبر قبل إهالة التراب عليه، بينما كان زياد يدفن ابن خاله، الذي توفي إثر نزيف معوي حاد ويقول «الحمدلله الذي أراحه من مرضه، ومكّننا من دفنه في هذه الظروف». وأضاف أنّ «أقلّ من ثلاثين شخصاً شاركوا في تشييعه. لم يكن يقلّ العدد عن ثلاثمائة في الأحوال العادية. الحرب غيرت كل شيء في حياتنا».
الحديقة أصبحت تضمّ قبور العشرات الذين توفوا من أبناء المنطقة، وبينهم جنود يتمّ تشييعهم رسمياً بالمراسم العسكرية في المشافي، لتسلم جثامينهم لذويهم بعد ذلك. ليس بإمكان ذوي شهداء الجيش دفنهم في مقبرة الشهداء بالقرب من حلب. قد يتعرض الموكب لنيران المسلحين، وكلّ جنازة لشخص تحت الأربعين عاماً تعتبر مشبوهة، حتى لو لم يكن المتوفى عسكرياً. قد يتهمه المسلحون المعارضون بأنّه «شبيح»، وربما يخطفون الجثة وفق ما يؤكده الأهالي الذين قرروا دفن موتاهم في الحيّ، ريثما تتحسن الأوضاع.
بدوره، قال عزيز، الذي دفن ابن أخته، وهو جندي قتل جنوب حلب، «كان يحاول إنقاذ قائده الذي أصيب أثناء محاولته سحب جثة أحد مرؤوسيه، استشهد هو والضابط، لا يمكننا دفنه في مقبرة الشهداء في الشيخ نجار».
نافع، تاجر يملك محلاً لتجارة الأقمشة في المنطقة، يقول «منذ الصيف أراقب المشهد. في البداية دفن ثلاثة أشخاص في زاوية الحديقة بانتظار تحسن الأوضاع، لكي يتمّ نقلهم إلى المقبرة الإسلامية، وقيل لنا إنّ الأمر موقت. وتزايدت القبور بعد ذلك حتى ملأت الحديقة». ويتساءل سكان الحيّ عن المكان الذي سيتابعون فيه دفن موتاهم بعد امتلاء الحديقة. ويخشى كثيرون منهم أن تطول مدة الانتظار، لأنّ القبور لم تحفر بأعماق كافية نتيجة السرعة وضعف الإمكانات.
وتبعد المقبرة الإسلامية، وهي الأحدث والأضخم في حلب، نحو ثمانية كيلومترات عن المدينة باتجاه الشمال على طريق الباب. وكان يسهل فيها الحصول على قبر قياساً بالمقابر القديمة الواقعة ضمن المخطط التنظيمي لمدينة حلب.
لم يعد هنالك دور لمكتب دفن الموتى، الذي كان يشرف على المقابر القديمة منها والحديثة، حيث كان الحصول على قبر في المدينة القديمة من أصعب ما تواجهه عائلة في المدينة، لكن الدفن أصبح متاحاً في أيّ مكان، بما فيه المقابر القديمة لمن يتمكن من التفاهم مع المسلحين.
باسل...