المُدن التّي تَسْكُننا
أُطلُّ من نافذة غرفتي على حديقة البيت الخلفيّة. أُتابع كيف تُرقّص النّسماتُ الخفيفةُ نبتةً صغيرةً جدّاً. مشهدٌ بسيطٌ لكنّه جميل. كَمْ أشتاق إلى بساطة الأشياء التي سرقتها منّا حضارة الازدحام!
صديقي الذي من غزّة يحسدني على الحديقة الخلفيّة. أخبرني ذات مرّة أنّه عرف في حياته أربعة بيوتٍ، ثلاثة في القطاع، أمّا الرّابع الذي يحتمله إلى أن يُنْهي دراسته الجامعيّة، ففي القاهرة. قال لي «حين تشدّ القاهرة إزارها على القلب، يبدو النّيل الملاذ الوحيد في هذه المدينة البائسة». لا أعتقد أنّه يُؤمن فعلاً بأنّ القاهرة مدينة بائسة، كلّ ما في الأمر أنّه  كان حزيناً بعض الشّيء.
خلال حرب الثّمانية أيّام على غزّة، لم أسأله كيف حاله. كنتُ خائفة من السّؤال ومن الإجابة أكثر. بعد الإعلان عن الهدنة، سألته عن أهله. أجابني بأنّهم بخير لكنّ بيتهم قد تضرّر كثيراً. كانت إجابته قصيرة وبسيطة، كأنّه يحاول إقناعي أنّ لا شيء يستدعي القلق. لم ينتبه صديقي للدّهشة التي خطفتني.
قبل هذا البيت الذي أطلّ من سطحه على بحر مدينة صيّادة التّونسيّة، عرفت بيتاً آخر.  نشأتُ فيه وغادرته عندما كان عمري قرابة السّتة أعوام. كان بيتاً بعيداً جدّاً في مدينة محاطة بالجبال، وكانت تعشّشُ فيه الرّطوبة. في الشّتاء، يزحف علينا البردُ ويحاصرنا الثّلج. أمّا في الصّيف، عندما كان يخنقنا الحرّ، فكنّا نهربُ إلى بيت جدّنا على السّاحل ونغرق في البحر.
الغريبُ في الأمر أنّني لا أذكر الثّلج. أذكر كلّ شيء عن ذلك البيت وتلك المدينة وأهلها، لكنّي لا أذكر مشهد سقوط الثّلج أو استقراره على قرميد المنازل. لولا الصّور، لما صدّقتُ أنّ تلك المدينة صديقةٌ حميمةٌ للثّلج.
أمّي لم تكن تحبّها. تقول إنّها مدينة بائسة لا تعرفُ كيف تشرحُ لها صدرها كما يفعل السّاحل. أبي لا يحنّ إليها، بل إلى النّاس البسطاء الذين عرفهم هناك وإلى أصدقائه الذين لولا الأوقات الجميلة والمغامرات الشّقيّة التي خاضها معهم لم يكن ليعرف كيف يتدبّر أمر غربته. أبي الذي هرب من ثلج رومانيا إلى ثلج تلك المدينة، حمل معه دفء وحبّ وطنه فلسطين الذي تركه خلفه ولم يودّعه جيّداً لأنّه لم يكن يعرفُ أنّه سيرحلُ طويلاً وبعيداً جدّا هكذا.
أنا أحبّ تلك المدينة رغم قسوة مناخها وبدائيّتها (في تلك الفترة كانت بدائيّة نوعاً ما، أما الآن فلابدّ أنّها قد التحقت بقطار التّحضّر). أنا أحبّها لأنّ أبي عرف أمّي فيها. كلّ منهما كان غريباً عنها لا يربطهما بها سوى العمل. كانا غريبيْن، فتوحّدا.
والد صديقي فلّاحٌ من غزّة وأمّه من مدينة يافا، تعرّفا في بيت لحم. قال لي إنّه حين اصطحبه والده لزيارة مدينة القدس لأوّل مرّة عندما كان عمره عشر سنوات، كان الرّاديو طوال الطّريق ينبّه إلى أنّ المنطقة تشهدُ عاصفة ثلجيّة وأحوالاً جوّية سيّئة. لا يفهم صديقي لماذا يطلقون على المطر والثّلج والرّعد والبرق والرّيح أحوالاً جويّة سيّئة. حين همّ والده بالعدول عن الزّيارة، أخذ يبكي وأضرب عن الكلام. فما كان من والده إلّا أن تابع الرّحلة إلى القدس. وهناك، وجداها بيضاء كالحلم. سُور المدينة أبيض، قبّة الصّخرة بيضاء، الدّرج إلى المسجد الأقصى أبيض، باحة المسجد بيضاء. كانت تلك المرّة الوحيدة التي رأى فيها صديقي الثّلج ولمسه بيديه.
صديقي يحسدني على حديقة بيتي الخلفيّة وأنا أحسده على القدس وعلى الثّلج.
يطبع الوقت خطواته على أعمارنا. أمّا نحن، فنخزن الذّكريات ونتزوّد بالأحلام.
يحلم صديقي ببيت على سفح الكرمل، بجانب سكن طلبة جامعة حيفا، يبنيه حينما يعود ويرغب في التقاعد. يحلم أنّه يقعد في شرفته ليتأمل الشباب وحياتهم الجامعيّة وعلى مرآى عينيه، يمتدّ الجليل بأكمله. أنا أيضاً أحلم بالجليل، الجليل الأوّل الذي لم يمسّه سُقم الاحتلال الإسرائيليّ. أحلم أنّي أقطع مرج بن عامر الأخضر النَدِيّ كما تقطعه الفلّاحات النصراويّات المتمرّسات.
تلك القصّة القصيرة للكثيرين وذلك الختم الخاص بالفلسطينيّ الذي يُبعثر خطواته على كلّ بقاع الأرض، يلتقي آلاف الوجوه، يضع رأسه على كتف مئات المُدن، يمسحُ التّعب عن روحه في حضن عشرات البيوت وعندما يهمّ أن ينام في أيّ منها، يبكي ،كطفلٍ فَقَدَ أمّه، حين يشتدّ به ألم الحنين إلى بيت جدّه الأوّل الذي يرتع فيه الغُرباء.
تونس- نوال عبدالله