ليس هناك أديانٌ تحصر دعواها في السلام، بل مسالمون يتخيّلون الأديان على صورة مثاليّاتهم، وبعضهم أفْضَلُ من أديانه.
■ ■ ■


الانحياز إلى المعجزة لأنّها، أيضاً، دليلٌ على وجود مَن هو أكرم.

■ ■ ■


من أقوى مشاهد الإغراء امرأةٌ منيعة، متعذّرة، «بعيدة»، وفي الوقت ذاته عيناها تستصرخان مِن وراء القبضان مَن يحرّرها من حرزها الحريز.

■ ■ ■


في بعض المواقف ينطوي الاعتصام بالتسامح والمحبّة على شيءٍ من «التمثيل» يولّدُ ردّةَ فعلٍ ساديّة.
تُعزّز هذا الشعور أفلام السينما المتداولة عن «آلام المسيح» وانعكاسها على قرّاء الأناجيل من أبناء عصر السينما.
كم كان موقف المحبّة (أو التسامح، الفداء، إلخ) يكون أفعل لو جرّدهُ الشارحون والرسّامون والمخرجون من إطار المَسْكَنَة. يستطيع القادر أن يعفو بدون مبالغة في الانكسار، والقويُّ أن يُحبّ بدون بكاء، والبطل أو القدّيس أو الإله أن يَفْدي بدون استعراضٍ يكرّس مازوشيّة المازوشي ويضاعف ساديّة السادي.

■ ■ ■


حين تدرأ الكبرياء عن الحسود تهمةَ الحقارة تصبح نوعاً من العذر، كما عند قايين. ولكنْ لنتخيّل حسودين محتقنين بنرجسيّتهم، وفوقها وتحتها وبين بين ضِعَةٌ تُنافس ذاتَها.

■ ■ ■


«لو كنتُ الله، لما تحمّلتُ وصوليّي السماء». (جورج دوهاميل)

■ ■ ■


الناقدُ يرى الآخرين ولا يعرف نفسه. رأى سانت بوف، ناقد القرن التاسع عشر الفرنسي، نقاطَ الضعف الموجودةِ وتلك المتوهَّمة في فكتور هوغو ولم يرَ سقطاته هو كناقد وكشاعر. ولم يكترث لبودلير رغم توسّلات الأخير إليه أن يكتب عنه. وحين أخيراً كتب ليته ما كتب.
صحيحٌ في العربيّة أيضاً: خالدة سعيد، ناقدة أدبنا الحديث، وجدتْ فينا أكثر ممّا فينا ولم تجد في ذاتها وأدب ذاتها الأهميّة المستحقّة. ولو فعلت لظهرت شاعرة كبيرة. كأنه حَتْم أن يخطئ الناقد قَدَره. وأحياناً تراه يرفض أن يعطي نفسه حقّها. امّحاء. تكريسُ الذات للآخر. مثل خالدة. لم أعرف أحداً هكذا.

■ ■ ■


لن يُكتبَ للإنسان العيش بلا شيخوخة أو موت ما دامت أرواح الأموات تتّخذ من الأحياء مواقف الانتظار أو الضغينة.

■ ■ ■


«أنا» قد تُحَبُّ: النرجسيّة الساذجة عند امرئ القيس، المجلودة عند بودلير، الهائلة المضرَّجة عند المتنبّي، والأنا المجهولة لبُناة الهياكل ومؤلّفي الأساطير والأغاني المعفاة من التوقيع.

■ ■ ■


أحياناً يتحقّق قَدَر المرء على يد أخصامه.
يقومون عنه بالمهمّةِ وهم يحسبون أنّهم يحقّقون غايتهم وفي الواقع يحقّقون غايته.
عَرَفها أم لم يعرفها.
الإنسانُ هكذا مصنوع: أعمى بوجهه مبصرٌ بظهره.
الشعوب والجماعاتُ أسوأ: قد تُبْصر بِنَفَرٍ من أفرادها وتبقى هي عمياء.
لحظةٌ واحدة تبصر فيها الجماعات: عندما يحقّق لها مجهولٌ قَدَرها.
مجهولُ حتميّة التاريخ، مجهولُ العناية الإلهيّة، مجهولُ التقاء المصالح، أو مؤامرة.
الفرد أوفر حظّاً: قد يتحقّق قدره على يد أخصامه ولا يأتيهم ذلك بمغنم، ولعلّه لن يكون في حقيقة الأمر سوى تحقيق لرغبةٍ كامنةٍ في ثنايا لاشعوره، فكانوا هم الأداة لتحقيقها.
الأمور مصنوعةٌ هكذا.

■ ■ ■


هل في الإنسان شيءٌ «غير إنسانيّ»؟
وهل لهذا السؤال معنى؟ وما معناه؟
لا أعرف. يبدو لي، في غَلَيان مشاعري أمام الظلم، أنّ الظلم، مثلاً، جزءٌ من كائنٍ غير إنساني.
تابع لزلزال، لبركان، لوحش، لعتمة.
وغير الظلم؟
الحَسَد.
مع أنّه رفيقُ الابن الأوّل.
كأنّه إبليس كان يتحيّن الحجّة لينقلب على الله.
بل هو كذلك، ولو تَقَنَّع بالتمرّد.
التمرّد حقّ إنسانيّ عندما يكون على حالةٍ لا تُطاق، على جَوْر، ولا يعود إنسانيّاً عندما ينبع من حسد.
التمرّد، خارج رَفْض القهر العبثي أو الجائر، ليس قيمة أخلاقيّة.

■ ■ ■


لنستسلم إلى الروائع، أدباً وفكراً وموسيقى وغناء وتصويراً ونحتاً ومسرحاً وسينما.
لنعش مع خلائق المبدعين، هي وحدها أطواقُ نجاة. وإذا شحّت الروائع فلنعد إلى الماضي، إلى قديمٍ سَحَرَنا، ولندمنه! ولنجترّه!...



ردّ على «عمر»

قارئٌ (قارئ كاتب على ما يبدو، وهناك شبه في الأسلوب والروح بأحد الزملاء المرموقين) سمّى نفسه «عمر» يقول على موقع «الأخبار» الإلكتروني إنّي «عدتُ إلى قبيلتي وطائفتي». يثور لعبارتي الأسبوع الفائت أنّ ياسر عرفات بدأ بقتل فلسطين عندما احتلّ لبنان. وتجاوبت معه قارئة عزيزة بأسىً صادق أحزنني وأحرجني.
الاحتلال، لغويّاً واصطلاحيّاً، هو سيطرةُ قوّةٍ من القوى على بلدٍ أو جزء من بلد ليس بلدها، بصرف النظر عن الروابط التاريخيّة والعرقيّة واللغويّة والعاطفيّة. عندما نقول إنّ عرفات احتلّ لبنان لا نقوم بأكثر من ترداد عبارته يوم صرّح لإحدى وسائل الإعلام بأنّه سيحكم فلسطين بنجاح «كما نجحتُ في حكم لبنان».
حكمه للبنان لم يكن استعارة أسبوعين ثلاثة للانقضاض منه على إسرائيل، بل كان سيطرةً على لبنان كبديلٍ ممكن من فلسطين. ونتيجتها معروفة وهي اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان وتدمير منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
لستُ أنا مَن له قبيلةٌ وطائفة لأعود إليهما. ولأنّه ليس لي قبيلة ولا طائفة أقول ما يغيظ أهل القبائل والطوائف والأحزاب والمنظّمات والذين بينهم كثيرون ارتزقوا من صندوق عرفات، ذلك الصندوق الذي أمعن في «ثقافة» الرشى للصحف والأحزاب و«الشخصيّات» والمرتزقة والمنافقين الذين لم تعنِ لهم القضيّة الفلسطينيّة (ولا أيّ قضيّة) غير كسب جمهورها أو قبض «إكراميّاتها».
تكلّمتُ عن لبنان وعرفات من منطلق تأريخيّ تقريري وصفيّ، أمّا ردّ السيّد «عمر» فهو مقالٌ مستقلّ عن كلامي أكثر ممّا هو ردّ. يبدو لي كتنفيسِ احتقان لأسباب أخرى. وهو، للأسف وللعار، ردٌّ يُطيّف بل يُمَذهب قضيّة ما كانت يوماً إلّا قوميّة وإنسانيّة.
كنتُ من أوائل مؤيّدي المقاومة الفلسطينيّة، من عهد ما كانت لا تزال «تحت الأرض». وبلغت بي الحماسة أن دعوتُ ذات يوم الدول العربيّة كلّها إلى اقتباس روح هذه المقاومة ودعوت المقاومة إلى تسهيل مهمّة تلك الدول في اقتباس نهجها. لم تكن مقاومة إسلاميّة ولا مسيحيّة، وأردناها في حماستنا أكثر من فلسطينيّة، أردناها عربيّة. ولا أزال مع المقاومة، وكلّما تزايدت تجزئتها ازددتُ إيماناً بأنّها كما أنتجت شرفاءها المؤسّسين لم تُعدم ولن تعدم أمثالاً لهم في الحاضر والمستقبل. وإيماني بالمقاومة ليس يافطة، وقد لا يشبه الكثير من مواقفي وتصرّفاتي، كما أنّ أعمالاً وأقوالاً مقاوميّة كثيرة لا تشبه مبادئي ولا أخلاقي. أنا ملتزم في هذا وفي سواه صدقي وضميري، ومن منطلق علمانيّتي، وبدعمٍ صلبٍ مجّاني ونزيه من مسيحيّتي التي لا طائفة لها ولا مذهب.
كلُّ مَن فكّر أو عمل للاستعاضة ببلدٍ عربيّ آخر عن فلسطين قد خان فلسطين. خانها بفكره وخانها بسلوكه. وأنت، يا سيّد «عمر»، تخونها بمزايدتك وبتخوينك للآخرين.