منذ فترة، قدمت «مجموعة الدكتافون» عرضاً مميزاً وجديداً اعتمد على مرافقة الممثلة تانيا الخوري في رحلة التلفريك الذي يصل ساحل «جونية» ببازليك «سيدة حاريصا». وبعد نجاح هذا العرض، قرّرت المجموعة تكرار التجربة بشكل أكثر تطوراً وجرأة من خلال عرض «هذا البحر لي» الذي يأخذ الجمهور في قارب صيد لاستكشاف ملكية شاطئ بيروت.
هكذا، تستقبل الفرقة خمسة مشاهدين/ مشاركين في كل رحلة بحرية تنطلق دوماً من مرفأ عين المريسة. البداية تكون مع الممثلة بترا سرحال التي تزود جمهورها بدراسة أجرتها المعمارية اللبنانية عبير سقسوق. وهنا، تسرد سرحال على مسمع الضيوف مقطعاً من كلمة رئيس بلدية بيروت بلال حمد التي يعبّر فيها عن رأيه في ما يخص إغلاق حرج بيروت: «الخوف إنو يفوتوا العالم يعملوه باربكيو... وكمان خوفنا إنو يتحول ميدان للأركيلة». من هنا، يأتي عرض «الدكتافون» الذي ينطلق من الفكرة ليذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ تعرّفه المجموعة بأنه «رحلة للبحث في المفاهيم المختلفة للمكان العام في لبنان من خلال شاطئ بيروت، وأنه وقفة لإعادة تصور مدينتنا وكيفية المطالبة بحقنا فيها».
هكذا تنطلق الرحلة في مركب الصيّاد عدنان العود، مع المشاهدين الخمسة المزودين بلافتات صغيرة مجلدة، كتبت عليها المراسيم والقوانين الخاصة بملكية الشاطئ والبحر. ولغاية وصول الزورق إلى تانيا الخوري الموجودة في وسط البحر مع لافتة ترفعها كتب عليها «هذا البحر لي»، يستغل الصياد انفراده بالجمهور ليلفت انتباهه إلى الدور المهم الذي أداه الراحل رفيق الحريري في المحافظة على المرفأ القديم الذي خرج منه الزورق للتوّ، ليصل إلى الخوري، فتصعد إلى متنه وتنضم إلى جمهورها، وينطلق عرض «هذا البحر لي». رحلة من ميناء عين المريسة، وصولاً إلى شاطئ الرملة البيضاء، حيث نستكشف ملكية هذه الأماكن والقوانين التي تحكمها، وممارسات مستخدميها، إلى أن يحط الزورق رحاله عند نقطة الدالية، الروشة.
بموازاة الشاطئ، يبحر قارب الصيد. ومقابل كل نقطة استملاك، تزود الخوري الجمهور بالمعلومات، والحيثيات المنوطة بكل حالة استملاك، استناداً إلى الأبحاث، والمراسيم التي يتناوب على قراءتها أحد المشاهدين من دون أن تتردد في استعمال الميكروفون للصراخ بأعلى صوت من وقت إلى آخر. في عرض البحر، توضح الخوري للجمهور أنّ رحلتهم ليست لتسليط الضوء على موضوعها فحسب، بل أيضاً لاتخاذ موقف، وتسجيل اعتراض. تطلب من الجمهور، كتابة شعار اعتراضي على لافتة بيضاء كبيرة، ليرفعها في القارب طوال الرحلة. كذلك تختار التوقف قبالة مسبح «السبورتينغ» المعروف بسياسته العنصرية تجاه الخادمات الأجنبيات، وتدعو الحضور إلى اختراق استملاكه الفاضح للبحر، والغطس والسباحة داخل مساحة المياه التي يحددها المسبح لزبائنه مع لافتة كتب عليها «هذا البحر لي». هكذا، طوال ساعة ونصف ساعة، تنكشف أسرار الماضي عبر المرور قبالة مسابح الجامعة الأميركية، والـ«ريفييرا»، و«الحمام العسكري»، والـ«لونغ بيتش»، وصولاً إلى الدالية/ الروشة، حتى فندق الـ«موفنبيك»، وشاطئ الرملة البيضاء. يقدم العرض رؤية استشرافية مروعة عن مستقبل مظلم للشواطئ اللبنانية. كل ذلك من خلال مزج العرض بذكاء وسلاسة بين رحلة جميلة تشق البحر قبالة شواطئ بيروت، مروراً بالمغاور الطبيعية في جوف الصخور، ضمن قالب فنيّ واقعي يشرك مشاهديه في أحداثه ويحثهم على اتخاذ موقف، والأهم من كل ذلك هو ارتباط العرض الوثيق بواقع سياسي واجتماعي يأخذ على عاتقه فضح الفساد وتقديم المعطيات الموثقة، وإعلان اعتراض صريح. وبذلك، تستعيد المجموعة الصلة بتقاليد عريقة عُرفت بمسرح التحريض والاحتجاج Agit Prop. هكذا، يتخطى «هذا البحر لي» أهداف العرض المسرحي ليتحول إلى نداء عام لكلّ مهتم عساه يتخذ الموقف المناسب، وهنا الموضوع بالطبع ليس حكراً على الفنانين، أو جمهور هذا العرض بالذات، بل يتوجه إلى كلّ لبناني سُلب حقه في استخدام ملكيات بلده العامة.
وهنا تجدر الإشارة إلى بعض النقاط المهمة، والفاضحة التي يكشفها العرض، ويمكن الإطلاع عليها تفصيلاً في كتيب الأبحاث: رغم المرسوم رقم ١٤٤ الصادر سنة ١٩٢٥ الذي يحدد امتداد «المجال البحري العام» بدءاً من البحر حتى أقصى حد يصل إليه الموج، ويرتفع فيه مستوى المياه، إلا أنّ شاطئ بيروت المعروف ضمن المخطط التوجيهي لمدينة بيروت بـ«المنطقة التاسعة»، هو أملاك خاصة منذ أربعينيات القرن الماضي. هكذا، تستباح الملكية العامة على مرأى الجميع ومسمعهم. أما المفاجأة التي تختتم بها الخوري عرضها قبل التوجه مع جمهورها لتناول فنجان من القهوة، فترتبط ببحث عبير سقسوق الذي يستند إليه العرض؛ إذ يفضح البحث قصة أهالي منطقة الدالية مع ثلاث شركات هي «البحر» و« صخرة البحر العقارية» و«صخرة اليمامة»، تلك الشركات كان يملكها شخص واحد هو الرئيس الراحل رفيق الحريري، وقد انتقلت ملكيتها إلى الورثة. وهنا يكشف العرض أنّه في عام ١٩٩٥، وبواسطة أفراد أهل المنطقة، ابتاع الحريري باسم تلك الشركات العقارية الثلاث، معظم منطقة الدالية في يوم واحد من دون أن يعلم أصحاب الأرض أن جميعهم يبيعون لشخص واحد اسمه الحريري. وفي عام ٢٠٠٧، جرى شراء بقية الأراضي من الوزير السابق ميشال المر، ليضع الحريري يده على العقار بأكمله. وعند اغتيال رفيق الحريري عام ٢٠٠٥، توقف المشروع الذي كان من المفترض إطلاقه في السنة ذاتها، وكان سيحمل اسم «دالية ريزورت كلوب»: منتجعات، وفنادق سياحية، وموانئ يخوت... للأغنياء فقط!
يمكن القول إنّ «مجموعة الدكتافون» المؤلفة من خبرات شابة (تانيا الخوري، وبترا سرحال، وعبير سقسوق) تنطلق بحماسة لتقديم وجهات نظر جريئة تطوّع الفن من أجل إطلاق شعارات التغيير ووقف الفساد والتعدي على الحريات والأملاك العامة. وفي هذه التجربة، تمشي الفرقة خطوة في طريق محاولاتها لخلق عروض حية ترتكز على أبحاث مدنية من شأنها أن تفتح نقاشاً عن مفهومنا للحيّز العام في لبنان. إضافة إلى ذلك، يتميز عمل المجموعة باستنادها بشكل أساسي ومعمق إلى الأبحاث التي تسبق العروض.

«هذا البحر لي» حتى ٨ أيلول (سبتمبر) ـــــ للإتصال والحجز : ٦٠٣٤٨٥/03



عروض موقعية

تعتمد عروض «مجموعة الدكتافون» على مزيج من البحث العلمي والفن والسياحة؛ إذ تعد الأبحاث العلمية الناشطة والمعمارية اللبنانية عبير سقسوق خريجة كلية الهندسة والأبحاث المدنية. تتسلم تلك الأبحاث تانيا الخوري وبترا سرحال خريجتا معهد الفنون الجميلة (قسم المسرح في الجامعة اللبنانية). تؤلفان وتجدان الإطار والأسلوب واللغة الفنية المناسبة لتقديم عروض منبثقة من تلك الأبحاث وتندرج تحت تسمية «العروض الموقعية».

تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقية بتاريخ | 04 آب 2012