أنسي الحاج
ما من فئة لبنانيّة لا تقيم روابط مع جهة خارجيّة. ظاهرة هي واحدة من آلامنا التي حوّّلها التفاؤل اللبناني، في المراحل الإيجابية، إلى مصادر غنى تظل محفوفة بالخطر. خطر التضخم وتجاوز الحدود. والخطر الأكبر: ضياع الذات في متاهات التغريب المطلق أو التشريق المطلق أو أي ارتهان مُطلق، حيث لا يعود للبنان معنى تعدّديته الخلاّقة الفذّة، بِنْت أصعب الحريات وأمّها.
لا بأس إذاً في الروابط ما دامت روافد وجسور انفتاح وتلاقُح ثقافي. وقد نجح ذلك حتى في ظلّ الاستعمار العثماني. وفشل حين لم تستطع الفئة أو الفئات اللبنانية منع حليفها الخارجي من استغلالها ضدّ نفسها وضدّ سائر اللبنانيين.
ينطبق هذا الكلام على «حزب الله» وروابطه بالمحور الإيراني ــ السوري كما ينطبق على قوى 14 آذار وروابطها الأميركيّة ــ الفرنسيّة ــ الخليجيّة.
الوهج اليوم، بعد عاصفة الشهر الإسرائيلي، هو لـ«حزب الله». أمام الحزب إمّا أن يحوّل هذا الوهج مصدر تهديد وتخويف لسائر عناصر التكوين اللبناني وإمّا أن يوظّفه لإعادة بناء الوحدة الوطنية. إنها فرصة تاريخية له ولـ«الفريق الآخر»، لا ندعو إلى اغتنامها إشفاقاً على لبنان بل برهاناً على شجاعة الشجعان.


في مبدأ التآخي لا مقدّس فوق التآخي، لأجله تُخفض الأصوات وتَلين الطباع، حصن التآخي هو الضعف لا القوّة، ضعف التنازل عن القوّة حين تغدو عامل تصادُم.
يحمل «حزب الله» في رصيده وزنين: وزن الإيديولوجيا الدينية والوزن العسكري. كلاهما فعّال إيجابياً لو كان الحزب في بلد متجانس يحكمه هو وحده. وهما عبء عليه في بلد تعايشي. هنا لا أحد يستطيع أن يظلّ منتصراً وحده ولا أن يظل منهزماً وحده. الشراكة تبدو في الظاهر اختيارية ولكنها في واقعها إرغامية حتمية. وإلاّ انكسر الإناء.
المطلوب ليس كلاماً تطمينياً مهما كان صادقاً، بل تحوّل ثوري انقلابي يعيد الحياة السياسية إلى طبيعتها التكافؤية رغم كل شوائبها. الأقوى هو المؤهّل أكثر من غيره للتحوّل.


يجب أن لا نصغي إلاّ لمن يزيدنا حريّة. كلّما ضاقت بنا المساحة ازدادت حاجتنا الى الانعتاق. في لبنان، ليست الحدود الجغرافية وحدها الخانقة، بل الحدود التعايشية والاجتماعية والنفسية، فضلاً عن حدود محيطنا الخانق المخنوق. لذلك تتعاظم حاجتنا الى الهواء ويصبح قدس الأقداس كلّ ذرّة حريّة نستطيع اختراعها.


لا نَقْدر أن نفصل الديني عن السياسي في حرب إسرائيل و«حزب الله». افتراضاً أراد اليهودي أن يتصرّف في معزل عن يهوديته نعيده نحن غير اليهود إلى يهوديته بنظرتنا التراكمية ورواسمنا. ليس الأمر على هذه الحدة مع الشيعي لكنه، في المبدأ، مماثل. إرثنا يحكمنا.
قارئ الصحف الإسرائيلية يلمس عقدة الذنب حيال تدمير لبنان. سامع حسن نصر الله يلمس الإصرار القَدَري على الشهادة والمشاركة العضوية مع الأضاحي. هناك يسمع تقريع الذات وهنا يرى دموع عرس الموت.
لم يتغيّر شيء في التاريخ. الزمن محطات لغسل الوجه واليدين قبل مواصلة السفر. السفر إلى جهة تُنسينا لدى بلوغها أننا كنا مسافرين، فنعود ونستأنف الرحيل بقوة النسيان. دائماً بقوّة النسيان. النسيان، لا الذاكرة، هو أبو الحياة.


أليس أن بعض ما يَغلبنا في الحرب هو كون «واقع» الموت يتجاوز ما فينا من «غريزة» الموت؟
فجأةً، الارتطام بالجثث.
الحرب نهاية الفكرة. ليست نهاية الحقيقة فحسب بل نهاية الفكرة. فكرة الحرب والسلم والحياة والموت. غريزة الموت التي تُحرّك غريزة الحياة إلى أقصاها في الخلق والجنس، تتلاشى في الحرب أمام «تطبيق» الموت.
أغلب من يكتب «عن» الحرب، عن الموت، هم ضعفاء غريزة الموت.


الحرية حيلة، انفلات من الأبوين. الحرب قتل فعلي، إرهاب أفقي، صراخه في صراخ وصمته في التراب. عندما يصدّق البشر فكرة الحرب ويمارسونها يضعون البطولة فوق الشك، والعَدَم أمام الكلمات، وراء الكلمات.


يبادل الإسرائيلي أسيراً له أو رفات طيار بعشرات بل مئات الأسرى العرب. غاراته الجوية الأبوكاليبتية مقابل حجارة المقلاع. يطحن ألف ومئتي قتيل ويعطب آلاف الجرحى ويمحو قرى وبلدات ويدمّر شرايين بلد بأسره ردّاً على أسيرين وبضعة قتلى، ثم مئة قتيل واضطرار سكان شماله للاحتماء شهراً في الملاجئ.
لقد تبدّل الوضع عمّا كان في المحرقة النازية. هناك كان المشهد انقضاض الذئب على الحمل. هنا كائن حائر بين العزلة والتمدّد، بين الانزواء والاجتياح. حائر بين حداثة تدعوه إلى التنعّم والعولمة والخروج من قمقم التوراة، والبقاء على صورة قديمة لليهودي قوامها مزيج من يشوع بن نون وداود وشمشون والهرتزلية والبن غوريونية والشارونية. الصورة ازدادت تعقيداً وإرهاقاً، ازدادت صدقاً. لم يعد الإسرائيلي محض ضحية ولا يريد أن يظهر محض جلّاد. كائن هجين من خوف ومن حقد، من يأس ومن ثأر.
مواطن الدولة العبرية يقترب من أن يعود يهودياً تائهاً. يا لها صورةً جذّابةً! أن تعود أرض الميعاد وتصبح فكرة... وتنتقم الفكرة مرّة أخرى من خطايا التجسيد.