أنسي الحاج
بعد حين، في المطارات الغريبة أو على السرير، تحضركَ فكرة كيف أنّ ما كان يتراءى لك خطيراً ويَرْتهن مواقفك، لم يعد مهمّاً. هبط هبوط الحمّى عند المريض. ويتجاذبك شعوران: واحد بأن الخطير إنما كان قدرتك على إضفاء الخطورة أو شدّة تجاوبك مع المؤثّرات، وآخر بفداحة بطلان الأشياء.
ثم تنظر فترى «قدرتك» الآنفة الذكر مجرّد خداع للذات، وبرهاناً على ضعف مناعتك، ولعبةَ سراب أو سراب لعبة.
والأشدّ إيلاماً هو أن «اكتشاف» هذه «الحقائق العارية» يحصل ببساطة مروّعة، بساطة لحظة إشراق هدّام، بساطة الموت بعد حصوله.


الحرب عندما تصادر الزمن، تُخرجنا منه. نهوّم خارج الجاذبية في صفاء التنصّل. ننتقم من الحرب لحظة سَحْقها لنا.


يكافح الإنسان من أجل لقاء. البقاء لقاء. لقاء شخص يُحقّق لنا صورة نحلم بها عن الآخر.
كلّما ترسّخ الحلم تضاعفت احتمالات الخيبة أو استحالة التحقيق، حتى ليبقى بعضهم وحيدين إلى النهاية.
وقد يَهْجر الحالمُ الأحلام لكنّ الأحلام تأبى الجلاء، كلّما آوى يلقاها على الوسادة.


في الوحدة، يبدو الأفق غير محدود. الوحدة في أصغر غرفة، هي سحيقة شاسعة كاللانهاية. هذا هو ما يُرعب الوحيد.
في الحبّ، يَنسى العاشق رهبة الشسوع لأنه يستغرق في قفصه. العشق مؤنس لأنه يَصبُّ الفكر والنظر على قالب شخص واحد يغدو هو الجميع، يغدو هو الحدود والغاية اللامحدودة... إلى أن يطلع من أعماق العاشق ذلك التوجّس الكامن، ويروح ينقر منه القلب والدماغ: توجُّس انجراح المرآة، خوف التبخُّر، قَلَقُ اختفاء الحلم.
الوحدة الهشّة أصلب من الصخر. الشراكة الحميمة عشبة دخيلة يهدد كل من الشريكين باقتلاعها على طريقته.


الجمال، إجمالاً، لا يبالي. إمّا لأن بروده هو مصدر جماله وإمّا لأنه يعرف ما به من بشاعات محجوبة وإمّا لأنه اعتاد نَفْسه.
الذي يثير ولا يُستثار. الحسناء الجذّابة، كلّما اتسع فراغ عينيها أمعن المعجب في «الإيمان» بـ«غموضها».
الكون أيضاً غير مبالٍ، أعمى وأصمّ، ونحن نتفنّن في الانذهال بـ«غموضه».


الفراغ هو دوماً عذْر للملء، ومشهد الجمال العقيم باعث على الشهوة ومسلس القياد لأفراس الخيال المحموم. اللامبالاة تُلهم الإنسان أكثر مما يلهمه المعنى. المعنى يسيطر، مستغنياً عن الملهمين. اللامبالاة، حين تحرّك الفضول، تَجرف جرفاً.
هي مخترعة النار.
لو لم تكن حوّاء لامبالية، وأكثر منها آدم، لما جُنّ جنون الطبيعة واستنفرتْ عبقريّة إغرائها لكسر الجليد، للخلاص من مشهد السعادة الملائكية، السعادة المعقّمة، السعادة الخالية من ملح الموت.


«الذين خلقوا الكلمات، أولئك كانوا يؤمنون بالهذيان». (أفلاطون).


الوجه المُشتهى ليس ذكرى ولا حلماً. قد يجمع بينهما ولكنّه يتخطاهما. المُشتهى هو تدويم اللحظة المرغوبة تدويماً بلا انتهاء.
الوجه، الجسد، المشية، الصوت، العطر ــ أيُّ مُشتهىً كان.
نشوة حاضرٍ تدوم، حتى لو كانت غير قصوى، وفاترة، ورتيبة...


انسَ ما قبله.
هناك مَن يولدون للزرع وهناك مَن يولدون للحصاد. الويل لمَن تَضيع خُطاه. الميزان هو السيّد. الويل لمَن ترجح فيه كفّة شيطانه السأمان على شيطانه الظمآن. الصدّيق لا يُمْنَح سوى فرصتين، واحدة من أجل تضييعه وأخرى من أجل تضييعها. لأن الصدّيق يُمَنّن والدجّال لا يُمَنّن.
تجيء حربٌ وتمضي، أيّ فرقٍ بينها وبين حياةٍ تجيء وتمضي؟ لولا الصوت لانعدم الفرق بين حياة وموت. صوت الحرب وصوت الغياب. صوت الصدمة وصوت الدموع. بالمجان نجيء وبالأثمان نجرّ أذيال البقاء. بالمجان نجيء ولمَ ليس بالمجان نبقى؟
أُعطيتَ هديةً لحظةَ فتحتَ عينيكَ وكان يجب أن تتواصل الهدايا. لا أحد يودّ الفطام. الظلْم دخيل ومثله الشيخوخة والفناء. لمَ يُدَلّل الكائن ثم تُغْلَقُ الأبواب في وجهه؟ مَن أجاز لذلك الملاك القبيح أن يشهر سيف النار ليمنع الدخول إلى بهو الراحة؟ مَن ذا يوصِد ويصدّ وأمامه ما يَرى من الجمال وما يَسْمع من غواية الهمس وخارق الدعاء؟ مَن ذا يتلبّد وينغلق كالجبال السوداء وحياله العيون؟ مَن يعد بالمجان ثم يدير ظهره؟ المخلوق يَخْلق ويتّضع، فلمَ الخالق يَخْلق ويغضب؟ ذاك يَصْنع ويُهان وهذا يَصنع ويُدين. مَن يَصْنع الحلم والمفرّات يُعاقَب وغيره لا يُسأل سؤالاً.
انسَ ما قَبْلَهُ.
لا موجب للكاتب، دعِ الذاكرة تتدحرج. أدخل ما كان قَبْلها. ارمِ نظركَ على ما يُقال له «الفراغ» وسترى ما لم تَرَه عين ولا تَسْمع إلّا ما عُلّلتَ بسماعه.
اعذرني على الكتابة، أيّها الرفيق الذي أتحاشى حكمه. كلانا نموذج لألم لا يُشرّف القبيلة. وبعد أن نهذر بما نهذر يعرونا الخجل ولا نجرؤ على الظهور إلّا في الظلام. كلانا لم يعد يَحتمل غير اللين والخَدَر. يُقال لنا «لكلٍ حريته»، وأنا وأنتَ نعرف أنّ لكلّ حرّية سجنها.
انسَ ما قَبْله. انسَ ما بَعْده.
انسَ...
ليتني أستطيع أن أُهديك هذه النعمة.