هل ما يحث في تونس استثناء مما يمكن أن يحدث في أي بلد عربي؟ وماذا نسمي كلّ أشكال الاحتجاج التي تجتاح مصر منذ سنوات خمس، والتي تتصاعد بالتواتر؟ أو ماذا نقول عن كلّ الاحتجاجات التي اجتاحت المغرب قبل فترة قصيرة؟أو أشكال التذمر والتململ في الأردن ولبنان، وحتى العراق المحتل، وفي سوريا، حيث ينزلق قطاع واسع من الطبقات الشعبية إلى حالة الفقر المدقع؟
لا شك في أنّنا على أبواب موجة جديدة من الانتفاضات الشعبية يمكن أن تجتاح كلّ البلدان العربية. لقد شهدنا الموجة الأولى في نهاية سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته، بدءاً من انتفاضة 18 و19 كانون الثاني / يناير سنة 1977 في مصر، مروراً بالسودان وتونس والمغرب، وعودةً إلى مصر وتونس والمغرب والسودان، ثم إلى الجزائر والأردن والمغرب. وهي الانتفاضات التي حدثت بعد البدء بتحقيق «تحرير الاقتصاد» انطلاقاً من وصفة صندوق النقد الدولي الذي فرض ما سمّي «سياسات التصحيح الهيكلي». تطلبت هذه السياسات الخصخصة وعنت بيع كل ثروة الشعب لمافيات كانت قد بدأت تتألّف (وهي تحكم اليوم)، و«كفّ يد» الدولة عن كل ما يتعلق بالاقتصاد. وأصبحت مهمّة الدولة تسهيل نشاط الرأسمال الإمبريالي، والمال المضارب، وحمايته، من خلال إصدار قوانين تحمي نشاطه تحت شعار استقطاب الرأسمال الأجنبي.
عبّرت تلك الموجة من الانتفاضات عن غضب، ولم تحقق أكثر من ذلك (سوى في السودان حيث فرضت الانتفاضة تغيير السلطة)، وربما فرضت تحقيق بعض الانفتاح السياسي في عدد من البلدان (مصر، الأردن، الجزائر، المغرب)، لكنّها كانت تشير إلى غياب الأحزاب التي تطرح ذاتها بديلاً. لم تكن هذه الأحزاب تتوقع حدوث الانتفاضات، رغم أنّ بعضها أسهم في تحريض الطبقات الشعبية وهو يناكف السلطات، ولم تستطع بالتالي التعامل معها بعدما وقعت، ثم انساقت مع العلنية التي اخترعتها النظم لتحقيق الانفصال الكامل بين الطبقات الشعبية والأحزاب، من خلال جرّها إلى «أرضية النضال الديموقراطي»، وتحقيق «التغيير السلمي» الذي يعني تداول السلطة. وهو ما تحقق بالفعل لأحزاب كانت قد أصبحت تعبة، وهرمة، وبالتالي كانت تريد أن تبقى في الرقعة السياسية أكثر من أي شيء آخر.
لكن خلال السنوات التالية كانت اللبرلة تفرض ذاتها، والفئات المافياوية تُحكم سيطرتها على النظم والاقتصاد، وتحكم تبعية الاقتصاد (والنظم ذاتها) للرأسمال الإمبريالي. لقد انتهى القطاع العام، وانتهى كلّ حديث عنه. بل أصبح الحديث عنه تهمة لأنّ اليسار الذي اندفع نحو الليبرالية بعيد انهيار الاشتراكية، وانساق مع موجة اللبرلة العالمية التي أطلقتها العولمة (المضمخة بالحروب والقتل والتدمير)، أصبح «يشيطن» كلّ الأفكار التي كانت تطرحها الاشتراكية ويفرضها تحقيق التطور، ومنها القطاع العام ودور الدولة الاقتصادي. وفي هذه المرحلة من الندب كان الاقتصاد يُنهب، ويتدمر كل القطاع المنتج الذي بني بفعل دور الدولة الاقتصادي وبمجهود الطبقات الشعبية، ويعود الاستيراد هو السمة المسيطرة، ويتحكم الرأسمال الإمبريالي بالمفاصل الأساسية في الاقتصاد والمجتمع. وقاد ذلك إلى مراكمة الديون على الدولة رغم أنّ القطاع العام كان يعدّ ثروة مهمة بيعت وهمّشت من دون أن تمنع الميل نحو الاستدانة، التي أصبحت مربوطة بالشروط الدولية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وهي شروط الطغم الإمبريالية. وهذا يوضح أنّ المافيات هي التي نهبت أموال القطاع العام، ونهبت أموال الديون التي كانت تسجل على الدولة. هذه الأخيرة كانت تزيد من الضرائب وتتخلى عن دورها الاجتماعي وتوقف رفع الأجور رغم أنّها كانت تفتح الأسواق لتكون أسعار السلع المحلية هي الأسعار الدولية ذاتها. وهو الأمر الذي كان يلقي بكل الطبقات الشعبية في قعر الفقر والتهميش.
وتحققت الهوة الطبقية التي أصبحت من السعة والتركز بما يجعلها سبباً في شعور الطبقات الشعبية بأنّها غير قادرة على العيش، وأن هناك طبقة مافياوية تنهب كل شيء، وتتحكم بكل الوضع، وتزيد من قوة الدولة البوليسية والاستخبارية. لقد كانت سنوات التسعينيات والعقد الأول من القرن الفائت هي السنوات التي أعادت تكوين النخب الحاكمة، وشكل الدولة الخاضعة لهذه النخب، لكن بالأساس للطغم الإمبريالية. فهي نخب بالغة الثراء، لكنّها مافيا تميل إلى النهب لا إلى النشاط الاقتصادي الحقيقي، حتى في التجارة التي كانت سمة البرجوازية التقليدية في النصف الأول من القرن العشرين، التي كان هذا النشاط يكيفها مع النمط الرأسمالي العالمي، وهيمنة الرأسمال الإمبريالي. ونشطت في العقار والصفقات، حتى حينما يتعلق الأمر باستيراد السلع. وهي تراكم أموالها في البنوك والشركات الإمبريالية. وربما كان هذا الشكل المافياوي هو المطابق لطبيعة الرأسمال الإمبريالي ذاته، إذ هيمن المال على الرأسمال نتيجة التضخم الذي أصبح يتسم به، وبات ينشط في المضاربات لا في الاقتصاد الحقيقي.
وهذه النخب التي سيطرت أعادت صياغة الدولة بما يجعلها مشاعاً لنشاط الشركات الاحتكارية الإمبريالية ونشاط المال المضارب، من خلال قوانين «الإصلاح الاقتصادي»، التي أعطت الحرية المطلقة لهذا المال المضارب. وبالتالي وضعت الدولة في تبعية بنيوية للطغم الإمبريالية، ثم قوّت من مقدرة الأجهزة الأمنية وألّفت شرطة مهمتها القمع المفضوح (الدرك أو الأمن المركزي أو ما شابه)، وبالتالي باتت دولاً بوليسية. ذلك رغم أنّ الغطاء الذي كانت تتحقق هذه العملية فيه هو الدمقرطة، من خلال الانفراج السياسي الذي حكم سنوات التسعينيات إلى الآن، والذي لم يكن سوى عملية إلهاء للأحزاب المعارضة في وضع كانت تعاد فيه صياغته بنحو بشع.
إذا كانت العقود الثلاثة التالية لثورة تموز / يوليو في مصر سنة 1952 قد أعادت صياغة البنى الطبقية في وضع أوجد قدراً من التوازن قلّص التفارق الطبقي، وخلخل وضع كل الطبقات بعد تحقيق الإصلاح الزراعي وتوسيع البناء الصناعي والتعليم، فإنّ السنوات منذ التسعينيات قد أطاحت هذا الوضع وأعادت تحقيق التفاوت الطبقي بنحو سافر. لقد أعيدت صياغة الطبقات بحيث تحتكر قلة جزءاً هائلاً من الدخل القومي، وتعيش قطاعات واسعة تحت خط الفقر (المحدد بدولارين في اليوم). لهذا نجد أنّ الحد الأدنى الضروري للعيش في مصر هو 1200 جنيه (تقريباً 240 دولاراً) بينما لا يبلغ متوسط الدخل الـ100 دولار. وأيضاً نجد أنّ الحد الأدنى الضروري للعيش في سوريا يبلغ 31 ألف ليرة سورية (نحو 600 دولار) بينما نجد أنّ متوسط الدخل يراوح بين 9 آلاف و11 ألف ليرة سورية (بين 200 و230 دولاراً تقريباً)، ونجد أنّ الحد الأدنى للأجور في تونس هو 250 ديناراً (أي ما يقارب الـ170 دولاراً) وهو أجر لا يكفي إطلاقاً. وهكذا في المغرب والأردن ولبنان... إلخ. الأسوأ هو أنّ نسبة البطالة بلغت معدلات عالية في كل البلدان العربية (22% في تونس مثلاً)، وحين يجتمع تدنّي الأجور مع البطالة يصبح الاحتقان الاجتماعي في أوجه.
لهذا نلمس أنّ الاحتقانات الاجتماعية بدأت منذ عقد، لكنّها تسارعت في أواسطه، لتأتي الأزمة «المالية» العالمية مكمّلة على عوامل الانفجار الاجتماعي. لقد أدّت الكتلة المالية الضخمة التي تنشط في المضاربات (والتي أصبحت هي الكتلة المهيمنة في الاقتصاد الرأسمالي) دوراً كبيراً في ارتفاع أسعار المواد الأساسية، مثل القمح والأرز والذرة والسكر، وهي مواد أساسية لعيش المواطن، من خلال عمليات المضاربة التي حدثت سنوات 2006 و2007 و2008. كذلك أفضت إلى ارتفاع هائل في أسعار النفط، الأمر الذي أسهم في زيادة أسعار سلع أساسية أخرى، وكذلك الخدمات، وحتى عناصر الإنتاج، الزراعي خصوصاً، ثم أسعار السلع الصناعية. لكنّها في المقابل عززت النهب الذي يمارس على شعوب الجنوب، فعمّقت أزمة المديونية، وفرضت على النظم الميل إلى زيادة الضرائب لسد عجز الميزانيات، ومالت إلى التسريح. كذلك نفّذ القطاع الخاص نتيجة أزمته عملية تسريح كبيرة، وسدّت الدولة إمكانية التوظيف، وخصوصاً لحاملي الشهادات، مع زيادة هامشية في الأجور لا تجاري التضخم أبداً.
في هذا الوضع لن تكون الانفجارات الشعبية ممكنة فحسب، بل مؤكدة. فالإفقار بلغ حداً غير ممكن الاحتمال، والتهميش توسع، والبطالة أصبحت سمة عامة.
الفارق هذه المرة يتمثل في أنّ النظم باتت هشّة رغم كلّ جبروتها الأمني، وخصوصاً أنّ النمط الرأسمالي الذي هي تابع فيه بات مهزوزاً. لقد أدت الأزمة العامة التي دخل فيها إلى ضعف سيطرة الطغم الإمبريالية الأميركية نتيجة عمق الأزمة في الاقتصاد الأميركي، وبالتالي تصاعد التنافس بين الرأسماليات، والتصارع لإعادة بناء السيطرة. وتسعى الرأسماليات الأميركية والأوروبية واليابانية إلى ترتيب العلاقة في ما بينها بنحو جديد، كما أنّها تتخوف من التنافس الصيني والروسي ومن صعود «القوى النامية» (الهند، البرازيل وجنوب أفريقيا، وربما تركيا). وهو وضع شبيه بما حدث بعد الحرب الثانية إثر تراجع وضع أوروبا وسعي أميركا إلى السيطرة الشاملة.
إذن، بعكس الثمانينيات التي شهدت انتفاضات كبيرة لكن في وضع كانت فيه النظم مستقرة، والنمط الرأسمالي بالكاد قد دخل أزمته، فإنّ الوضع الراهن يشير إلى احتمالات مختلفة. وضع العالم بات مطروحاً لإعادة الصياغة. وبالتالي فإنّ إمكانيات تحقيق الانتفاضات شيئاً هو أمر ممكن. لكن أين قوى التغيير؟ وهل تولد في خضم هذا الصراع الذي بدأ للتو؟
* كاتب عربي