القاهرة ــ خالد محمود رمضان
«شكراً مصر»، هذا ما كتبه معلّق سياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أمس. إلا أن الشكر لم يكن لمصر بقدر ما كان للرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي صادفت أمس الذكرى الثلاثين لزيارته إلى القدس المحتلة، في إطار ما روّج له النظام المصري في حينها تحت اسم «المبادرة». إلا أن خصوم السادات سمّوا مبادرته «زيارة الخيانة»، ورأوا أنها أول «طريق الاستسلام» للمشروع الإسرائيلي

الآن بعد 30 عاماً، هناك من يرى أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات لم يكن خائناً، بل «حكيماً وعبقرياً سابقاً عصره»، وهو الآن، قياساً على المواقف العربية في العملية السلمية، «مناضل صلب»، ولا سيما أن ما كان السادات يرفضه رفضاً تاماً بات مقبولاً في سياق «التنازلات السلمية» العربية والفلسطينية.
زيارة القدس كانت صدمة وصعوداً إلى الهاوية، كما تراها غالبية المعارضين لكل الخطوات التي تتالت من بعدها. ولا تزال اللحظة ساخنة عندما حطّت طائرة السادات في مطار بن غوريون في تلك الأمسية، التي توقفت فيها الحركة تماماً في شوارع القاهرة. تسمّر المصريون أمام شاشات التلفزة يتابعون في دهشة وحيرة رئيسهم «البطل المؤمن، قائد الحرب والسلام»، يخطو بقدميه، كأول رئيس لدولة عربية منذ نكبة فلسطين عام 1948، على بساط أحمر ينتظره في نهايته حكام الدولة التي حلمت بها العصابات الصهيونية.
في كلمته في ذلك المساء البعيد، خاطب السادات إسرائيل من مقر الكنيست قائلاً بلغة عربية صاحبتها مؤثراته الصوتية المعتادة وطريقته في الأداء: «أصارحكم القول بكل الصدق، بأنني اتخذت هذا القرار بعد تفكير طويل، وأنا أعلم أنه مخاطرة كبيرة، لأنه إذا كان الله قد كتب لي قدري أن أتولى المسؤولية عن شعب مصر، وأن أشارك في مسؤولية المصير، بالنسبة إلى الشعب العربي وشعب فلسطين، فإنَّ أول واجبات هذه المسؤولية، أن استنفد كل السبُل، لكي أجنّب شعبي المصري العربي، وكل الشعب العربي، ويلات حروب أخرى، محطمة، مدمرة، لا يعلم مداها إلاَّ الله».
أراد السادات كسر «الحاجز النفسي»، وأن تكون حرب السادس من تشرين أول عام 1973 آخر الحروب في منطقة الشرق الأوسط، لكنه لم يعش طويلاً حتى يرى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ولا الحرب التي شنّتها إسرائيل العام الماضي، كما لم تبلغه أنباء سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في شهر آذار عام 2003.
«لن يأتي حاكم عربي مثله ولن يتكرر ما فعله السادات مجدداً، فقد كان يرى ما لا يراه الآخرون»، هكذا يرى الأمين العام السابق للجامعة العربية، وزير الخارجية المصري الأسبق عصمت عبد المجيد، الرحلة المثيرة للجدل التي قام بها السادات إلى مدينة القدس المحتلة مساء السبت في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1977.
من شرفة مكتبه المطل من الدور السابع عشر على نيل القاهرة، وعلى مرمى حجر من منزل السادات، أشار عبد المجيد إلى منزل الرئيس السابق، متذكراً لقاءه التاريخي الأول معه في شهر حزيران عام 1973، أي قبل شهور قليلة من اندلاع حرب تشرين الأول.
لم يكن عبد المجيد يعلم مسبقاً نية السادات شن حرب على إسرائيل «وفقاً لإمكانات القوات المسلحة»، كما قال السادات نفسه في خطاب الحرب الموجه منه إلى المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية وقتها.
بعد كل هذه السنوات، ومشواره السياسي الحافل بالأحداث والمنعطفات التي ألقت بظلالها على تاريخ مصر والمنطقة، لا يزال عبد المجيد مصرّاً على الاحتفاء بالرجل الذي زار القدس، فيما يقول معارضوه إنه «خان الأمانة وفرّط في المسؤولية عبر ذهابه على قدميه إلى عقر دار العدو».
إلا أن لعبد المجيد رؤية أخرى، إذ يرى أن السادات «كان معلّماً حقيقياً وأستاذاً في الاستراتيجية. أدركت هذا جيداً بعد توالي الأحداث وتسلسلها التاريخي الذي بات معروفاً. الآن يمكنني أن أقول لك بكل ثقة إن السادات كان سابقاً لعصره».
يبدو أن قناعة عبد المجيد بالسادات قد تولدت مبكراًَ، وأدت إلى ثقة حقيقية بالرجل وبكل سياسته وقراراته. وفي ما بعد، عندما يرى الدكتور عبد المجيد اثنين من وزراء الخارجية إسماعيل فهمي ومحمد كامل إبراهيم يصران على الاستقالة من منصبيهما، في مشهد غير مسبوق في الحياة السياسية أو حتى تاريخ الدبلوماسية المصرية، احتجاجاً على زيارة السادات، فإنه يتفهّم موقف الرئيس الراحل، ولا يرى فيه أي غضاضة.
يرى الرجل أن الذين عارضوا الزيارة وما ترتب عليها لم تكن لديهم الأبعاد الاستراتيجية التي لدى السادات. ويضيف: «مع احترامي لمن ذكرت أسماءهم للتو، ما فعله السادات كان أمراً غير معتاد وغير مسبوق. كانت له طريقته الخاصة في التفكير. لكن المؤكد أنه لم يكن رجل الصدمات».

في التاسع من تشرين الثاني عام 1977، أعلن السادات، في خطاب أمام مجلس الشعب، استعداده للذهاب إلى «أقصى مكان في العالم حتى لو كان القدس، من أجل الصلح أو السلام مع إسرائيل».
يقول حافظ إسماعيل، رئيس الاستخبارات الأسبق ومستشار السادات لشؤون الأمن القومي، في مذكراته، إن «زيارة السادات للقدس كانت من الوهم والحقيقة حينما استمعنا إلى خطابه في مجلس الشعب. لم نكن نصدق أن الرئيس يعني ما يقوله عن استعداده للتوجه إلى القدس».
لكن هل يعني ذلك أن زيارة القدس وما ترتب عليها من أحداث، سواء بتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 أو طرد مصر من الجامعة العربية وتجميد عضويتها فيها، كان يخدم المصالح المصرية؟ يجيب عبد المجيد: «ربما لو لم يفعلها السادات ويزور القدس منذ ذلك التاريخ، لما كان بمقدورنا أن نتكلم عن سيناء باعتبارها أرضاً مصرية محررة، ولربما كان مصيرها كمصير مرتفعات الجولان السورية التي لا تزال إسرائيل تحتلها إلى اللحظة».
لكن وزير الخارجية الراحل إسماعيل فهمي، الذي استقال من منصبه اعتراضاً على تلك الزيارة، يرى أن حركة السادات المسرحية «حطمت» دور مصر تجاه الفلسطينيين، من دون أن تتمكن من كسر الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل.
كذلك يعتقد فهمي أن رغبة السادات في أن يصبح بطلاً عالمياً أدت إلى عزلة مصر عربياً وعزلة السادات محلياً، مشيراً إلى أن غالبية المصريين استقبلوا مصرعه على أيدي متشددين إسلاميين بلا مبالاة، كأنهم يتحررون من وهمه.
ويضيف، في كتاب «التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط»، أن «السادات حينما أبلغه بفكرة الذهاب إلى القدس، أثناء وجودهما في رحلة إلى رومانيا، ذكّره بأن أمام مصر ورقتي ضغط، هما الاعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب، وأن مجرد الذهاب إلى القدس سيصبّ في مصلحة إسرائيل التي ستملي شروطها في ظروف ستعزل فيها مصر عن محيطها العربي». ويشير فهمي إلى أن مناقشته مع السادات في ذلك اللقاء استغرقت ثماني ساعات، ذهب بعدها إلى استراحته حيث كان ينتظره مدير مكتبه أسامة الباز والمستشار القانوني في وزارة الخارجية محمد البرادعي. وبعد أن أبلغهما ما قاله السادات «انفجر أسامة الباز قائلاً هذا جنون. لا شك أن الرجل غير متّزن. لا بد من منع ذهابه إلى القدس حتى لو استعملنا القوة».
لذلك يقول فهمي أيضاً «إنه لم يكن باعثاً على الدهشة أن تتم تصفية السادات في النهاية على أيدي مجموعة طائفية. وبينما كان معظم المصريين غير مستعد للذهاب إلى هذا الحد (الاغتيال)، فإن غالبيتهم كانت تشارك القتلة تحررهم من وهم السادات، وليس هناك دليل أفضل من اللامبالاة الشديدة التي استقبل بها الشعب حادثة مصرع السادات. كانت محاولة متعمدة لتناسي أن السادات كان موجوداً من قبل».
في المقابل، يصرّ عصمت عبد المجيد على أن السادات كان صادقاً مع نفسه ومصالح أمته، وأنه كان يسبق أوانه، ولم يكن سهلاً على المحيطين به فهم ما يريده ويخطط له. ويلتمس عبد المجيد العذر لمن أساؤوا فهم السادات أو لم يفهموا سياسته عندما كان في الحكم، إذ يرى أنه «كان رجلاً حكيماً لا شك، تختلف معه ولكنك في نهاية المطاف تحترمه. كانت نوازعه وطنية محضة. ولم يكن يعنيه سوى مصلحة شعبه أولاً وأخيراً».
ومع ذلك، يشدد عبد المجيد على أن «السادات كان يرى أهمية دور مصر العربي، ولم يكن يريد بأي حال من الأحوال انسلاخ مصر عن قدرها ومحيطها». وبلغة الحسابات، يقول عبد المجيد إن «مصر ربحت كثيراً من رحلة السادات المثيرة للجدل وما ترتب عليها»، مشيراً إلى أن التعامل مع إسرائيل بات ممكناً وفقاً للضوابط الوطنية والمصالح العربية. ويضيف: «ليس عيباً أن تجلس للتفاوض معهم، لكن شريطة أن تعي ما تريد، وما ضاع حق وراءه مطالب. ولعل في قصة استردادنا لطابا عبر التحكيم الدولي والمفاوضات أقرب مثال على ذلك».
لكن هل بات السلام ممكناً في منطقة الشرق الأوسط ونحن على وشك أن نشهد مؤتمراً جديداً يخطط الرئيس الأميركي جورج بوش لعقده في بلاده الشهر المقبل، يرد عبد المجيد «نعم، لا خوف أو تردد، لكن أشك كثيراً في النيات الإسرائيلية». وفي تقرير بثته عبر موقعها الإلكتروني باللغة العربية، تعترف وزارة الخارجية الإسرائيلية بأنه «على الرغم من التقدم الإيجابي الذي شهدته العلاقات المصرية ـــــ الإسرائيلية، فلا يزال هناك العديد من الأمور التي تحتاج إلى العمل والتحسين في إطار علاقات السلام بين البلدين، من بينها التقارب والتعارف بين أبناء الشعبين أنفسهم، وتوسيع الحوار الثقافي، وتعزيز العلاقات السياحية وتشجيع التعارف المتبادل».
وتتطلع إسرائيل، وفقاً للتقرير نفسه، إلى أن يتحول السلام بين مصر وإسرائيل، والذي يبدو أنه قد أعطى ثماره الحقيقية على مستوى الحوار بين الحكومتين، إلى سلام فعّال ونشط ومثمر على مستوى الشعبين والمجتمعين المصري والإسرائيلي أيضاً.
لكن المناهضين للتطبيع لا يزالون نشطين للغاية، كما يرى المؤلف والكاتب المسرحي علي سالم، الذي يُعدّ من أبرز دعاة التطبيع، والذي قام بزيارات عديدة لإسرائيل أدت لاحقاً إلى طرده من اتحاد الكتاب وتصنيفه خائناً للثوابت الوطنية.
وفي كل الأحوال، لم يفلح علي سالم ولا تسعة من السفراء الإسرائيليين، الذين تعاقبوا حتى الآن على القاهرة، في مقابل ثلاثة سفراء مصريين فقط في تل أبيب، في إقناع المصريين بالتطبيع أو جدوى السلام مع الدولة التي طالما طالب رئيسهم الراحل صاحب الكاريزما والجماهيرية الطاغية، جمال عبد الناصر، برميها في البحر قبل أن يتلقّى الجيش المصري أسوأ هزيمة عسكرية على الإطلاق في تاريخه في حرب الأيام الستة في شهر حزيران عام 1967.
بعد 30 عاماً من زيارة القدس، لم يحذُ أي رئيس عربي حذو السادات، وحتى خليفته الرئيس الحالي حسني مبارك، امتنع عن تلبية عشرات الدعوات الرسمية التي وجهتها حكومات إسرائيل المتعاقبة طيلة سنوات حكمه الـ 26، رغم الضغوط الأميركية والغربية لإقناعه بالزيارة.
المرة الوحيدة التي زار فيها مبارك إسرائيل كانت مقتضبة، ولتقديم العزاء برحيل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين الذي اغتيل عام 1994.
ويبدو أنه سيتعين على إسرائيل أن تنتظر من دون جدوى ظهور سادات آخر في العالم العربي، لكن الظروف باتت مختلفة للغاية عربياً ودولياً. وبينما ما زال العرب يسعون من دون جدوى لإقناع إسرائيل بمبادرة سلام حصلت على إجماع العرب في قمة بيروت عام 2002، ينتظر صاحب البيت الأبيض في بلاهة تحقيق ما عجزت زيارة السادات إلى القدس عام 1977 عن تحقيقه: «السلام الشامل والعادل في المنطقة وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي».